د.إبراهيم علوش
البناء 10/12/2014
ثمة فرق جوهري بين الذين يتعاملون مع مناهضة التطبيع والمقاومة بكل أشكالها، حتى العسكرية منها، كتكتيك، ومن يتعاملون معها كاستراتيجية، أي بين الذين ينظرون لمناهضة التطبيع وللمقاومة من منظور براغماتي مصلحي عابر، ومن ينظرون إليهما من منظور مبدئي. الفرق بين المنظورين طبعاً أن المنظور المبدئي ينطلق من معيار مصلحة الأمة، أما المنظور البراغماتي فيتعامل مع مناهضة التطبيع أو المقاومة كأداة لتحقيق مصلحة شخص أو حزب أو نظام يريد أن يحسن شروط البيع والشراء، أو شروط علاقته مع الطرف الأمريكي-الصهيوني.
وقد يلتبس الفرق بين المنظورين في الواقع، خاصة إذا كان أصحاب المنظور البراغماتي يقدمون التضحيات ويتعرضون للهجمات الإعلامية أو غير الإعلامية من الطرف الأمريكي-الصهيوني، أو إذا كانوا أكثر تأثيراً في الميدان من أصحاب المنظور المبدئي مفتقدي التنظيم والموارد كما هي الحال اليوم.
فلنأخذ أمثلة عملية: لا تزال المملكة العربية السعودية تتعرض لحملات إعلامية في الولايات المتحدة لأنها ترفض حتى الآن إسقاط المقاطعة من الدرجة الأولى ضد الكيان الصهيوني رسمياً، بعد أن أسقطت المقاطعة من الدرجة الثانية والثالثة، وتقوم “مبادرة السلام العربية” التي تبنتها الجامعة العربية عام 2002، التي تشكل المملكة مظلتها الأساسية، على مبدأ “التطبيع مقابل انسحاب صهيوني من أراضٍ محتلة عام 67”. للعلم، مبادرة الأمير فهد في بداية الثمانينيات، قبل أن يصبح ملكاً، التي ثبتتها الجامعة العربية رسمياً بعد العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982 في “مقررات قمة فاس”، كانت تقوم على نفس مبدأ التطبيع العربي والإسلامي الشامل مقابل بعض التنازلات الصهيونية التي لا يزال يرفضها الصهاينة لأنهم يريدون استسلاماً عربياً غير مشروط.
شئنا أم أبينا، ثمة مقاومة ما للتطبيع من الدرجة الأولى هنا، لكن تحت أي سقف؟ ومن أجل أي برنامج سياسي؟ وهي “مقاومة” غير ثابتة طبعاً، بدلالة اختراق بندر بن سلطان لها وغيره للتنسيق مع العدو الصهيوني ضد سورية، لكنها موجودة حتى الآن ولا نستطيع إنكارها. فهل نقول هنا أن شيئاً من مقاومة التطبيع افضل من لا شيء؟ أم نقول أنها مقاومة غير مبدئية للتطبيع، تقود موضوعياً للتطبيع، وتنطلق من الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود وبحدوده الآمنة، ومن السعي لإيجاد موطئ قدم بشروط أفضل قليلاً في الترتيبات الأمريكية-الصهيونية للمنطقة؟ وما الفرق الحقيقي والجوهري فعلياً بين مثل هذا الموقف وبين الحركات والقوى التي تمارس مقاومة التطبيع، أو المقاومة المسلحة في بعض الأحيان، من أجل دويلة فلسطينية في حدود الـ67 تحت سقف “القرارات الدولية” التي تعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود وبالحدود الآمنة، وتعترف بالتالي بالترتيبات الأمريكية-الصهيونية للمنطقة سوى أنها تريد لنفسها مقعداً أو موقعاً بشروط أفضل قليلاً فيها؟
مثال آخر: حركة الـ”بي دي أس” BDS في الغرب تنطلق في الدعوة لمقاطعة الكيان الصهيوني من منطلق: 1) اعتبار المقاطعة بديلاً سلمياً للعمل المسلح، 2) العمل لإزالة “العنصرية” من الكيان الصهيوني، 3) وصولاً إما “لدولتين لشعبين” أو “لإسرائيل لكافة مواطنيها”، 4) بالتعاون بين الغزاة “التقدميين” والنشطاء الفلسطينيين والدوليين.
مرة أخرى، ثمة جهود ملموسة هنا لمقاطعة الكيان الصهيوني في الغرب تديرها حركة “البي دي أس”، لكن تحت أي سقف؟ ومن أجل تحقيق أي برنامج سياسي؟؟
من الواضح أن برنامج حركة “البي دي أس” هو برنامج يقوم على: 1) الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، 2) الدعوة للتعايش السلمي بين الغزاة وأصحاب الأرض الأصليين، 3) التركيز على منتجات الاحتلال مثل العنصرية وتجاهل الأساس وهو حقيقة الاحتلال البشعة على كل أرض فلسطين، 4) تحييد مسألة هوية الأرض، المحور الرئيسي للصراع، وما إذا كانت عربية أم يهودية. عليه يمكن أن نقول بكل أريحية أن برنامج حركة “البي دي أس” هو بالمحصلة برنامج تطبيعي، لا بل أنه اختراق تطبيعي لحركة مناهضة التطبيع.
هل يعني ذلك أن حركة “البي دي أس” لا تسبب ألماً للكيان الصهيوني، كما تسبب مقاطعة السعودية الجزئية (حتى الآن) للكيان الصهيوني ألماً له، وكما تسبب له ألماً بعض الفصائل المستعدة للتعايش مع الكيان لو قبل هو بتقديم بعض التنازلات؟
لا ننكر أن الكيان الصهيوني يعاني من أي مقاطعة أو مناهضة سياسية أو عسكرية له، وأنه يخوض صراعات لا تنتهي ضدها. لكننا كأمة محظوظين جداً أن الكيان الصهيوني تحكمه ثقافة استعلائية متغطرسة تتطلب الاستسلام غير المشروط من المحيط العربي والإسلامي كشرط من شروط وجوده، وهي ثقافة تعتبر أي تنازلات جوهرية بداية النهاية لكيان يرى نفسه قائماً على رهبة القوة.
من الطبيعي إذن أن ندعم أي مقاومة أو مقاطعة للعدو الصهيوني، مهما تضاءل حجمها، لكن دعم الفعل المقاوِم أو المقاطِع بالقطعة شيء، ودعم الأجندة البراغماتية الملغومة أحياناً لمن يمارس مثل ذلك الفعل شيء مختلفٌ تمامأً. فمن الطبيعي مثلاً أن نعتز بإنجازات الجيش المصري في حرب الـ73، لكن لا يجوز أن يقودنا ذلك لدعم الأجندة المخترقة لأنور السادات التي أوصلتنا لمعاهدة كامب ديفيد، ومن الطبيعي أن نفتخر بعمليات ومعارك المقاومة الفلسطينية المعاصرة ضد العدو الصهيوني، أما تصريف ذلك سياسياً على شكل دعمٍ وتبنٍ لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وخطها السياسي الذي أوصلنا لاتفاقية أوسلو فمسألة مختلفة تماماً، ويمكن بسهولة تطبيق المقياس نفسه على حركة “البي دي أس” أو على حركة “حماس” في غزة. وهنا قد يجد المندفعون خلف أصحاب برامج مناهضة التطبيع والمقاطعة غير المبدئية أنهم أصبحوا وقوداً لصفقة تتناقض تماماً مع أهدافهم ونواياهم الوطنية الصادقة إذا تغلب اتجاه الحمائم على اتجاه الصقور في معسكر خصومنا، والحمد لله أن صقور معسكر الأعداء لا يزالون يعصمون الكثير من حمائم مناهضة الصهيونية من الزلل.