د.إبراهيم علوش
البناء 29/10/2014
مرت الذكرى العشرون لتوقيع معاهدة وادي عربة بين الأردن والكيان الصهيوني بصمتٍ موشّى بالخجل هذا العام. وكانت الأمور تسير بذلك الاتجاه منذ سنواتٍ في الواقع، فلم تكن هناك احتفالات علنية بالمناسبة، كأن الأردن الرسمي تمنى لو أن الذكرى دُفنت في كفنٍ من النسيان، على الأقل هكذا بدت الحال… كأن الأرض انشقت وابتلعت الرسميين والإعلاميين الأردنيين الذين طبلوا وزمروا للمعاهدة ولـ”قطار السلام” في التسعينيات، حتى أن بعض زوار السفارة الصهيونية السابقين في عمان، ممن استحقوا وضع أسمائهم على قوائم المطبعين، باتوا يكتبون ويحاضرون اليوم في “مناهضة الصهيونية”!
لكنها هوامشُ فرديةٍ لرد الاعتبار لا تقترب من التوبة النصوح خاصة أنها لم تقترن بنقد مواقفهم السابقة علنا، أما النظام الأردني فيصعِّدُ من التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت غمامةٍ من اللامبالاة الرسمية بذكرى المعاهدة متمنياً أن ينشغل الناس عن وادي عربة بأسعار مشتقات النفط والضرائب المتصاعدة وأزمات السير وأقساط المدارس وتفاقم العنف اليومي واحتمالات انعكاس مشاكل الإقليم على الأردن، فيما توقع “شركة الكهرباء الوطنية” الأردنية المملوكة حكومياً صفقةً تاريخيةً لشراء الغاز المسروق من الكيان الصهيوني بذريعة عدم توفر البدائل وتصاعد عجز الموازنة الحكومية، بالأخص بسبب كلفة تزويد الأردن بالكهرباء بعد انقطاع الغاز المصري… ويتطلب الأمر كثيراً من “حسن النية” للاعتقاد أن التكفيريين في سيناء فجروا خط الغاز بين مصر والأردن في 15 تشرين الأول 2014 للمرة السادسة والعشرين بدوافع “فقهية” فقط، لكي لا يبقى في الميدان الغازي أمام الأردن إلا الكيان الصهيوني وحده!!!
بعد عشرين عاماً على توقيع معاهدة وادي عربة بات المزيد والمزيد من الأردنيين يكنون الشكوك ويعلنونها إزاء منطق تلك الصفقة وفائدتها، وبات من الأصعب بمكان إيجاد سياسيين وإعلاميين أردنيين، ناهيك عن مواطنين عاديين، يدافعون عنها أو يتبنونها في العلن، خاصة في ضوء التشدد والتطرف المتزايد لـ”الإسرائيليين” من الصفوف العليا للهرم السياسي إلى قاع القاعدة الانتخابية، وفي ضوء ارتفاع أصوات في الكنيست الصهيوني ترى الأردن “وطناً فلسطينياً بديلاً”، هو عندهم بالأساس أرضٌ “إسرائيلية” محتلة. لكن كل ذلك لم يمنع النظام الأردني من زيادة التنسيق الأمني والاستخباري مع العدو الصهيوني حسب السفير الصهيوني السابق في عمان دانييل نيفو في مقابلة أجراها مع إذاعة الجيش الصهيوني صبيحة يوم 23 تشرين أول 2014 لمناسبة الذكرى العشرين لتوقيع معاهدة وادي عربة في 26 تشرين أول 1994. فبين طرفي تلك المعاهدة يبقى الكيان الصهيوني هو الذي يطنطن بفوائدها له: تصدير غاز وتنسيق أمني وعلاقات تجارية ومياه محلاة من العقبة لإيلات. أما الأردن الرسمي فيبدو أنه يفضل أن لا يفتح جدالاً في الشارع حول تلك المعاهدة، معتبراً تمريرها على الشعب بأقل قدر ممكن من الامتعاض والاحتجاج إنجازاً سياسياً وإعلامياً.
إن السياسات الحربجية والقمعية للحكومات الصهيونية المتتالية منذ توقيع وادي عربة، سواء كانت حكومات إئتلافية أو ليكودية أو عمالية أو تحكمها كاديما، والمواقف “الإسرائيلية” المتصلبة والمتزايدة تشدداً في “عملية السلام” اللانهائية، تناسبت طرداً منذ “معاهدات السلام” مع استعداد صناع القرار الرسمي العربي والفلسطيني لتقديم التنازلات والانخراط في مبادرات لتحريك “عملية السلام” المزعومة إلى الأمام. ولا شك أن ذلك ساهم بدفع مؤيدي معاهدة “وادي عربة” العلنيين عن مقدمة المسرح الإعلامي، وزاد من الحساسية الشعبية الأردنية إزاءها، دون أن يؤدي لإضعاف أو قطع العلاقة التي نسجتها وادي عربة بين الأردن الرسمي والكيان الصهيوني، حتى عندما زادت انتهاكات الكيان الصهيوني للقدس ومقدساتها، خاصة تلك التي وُضعت بموجب وادي عربة نفسها تحت الوصاية الأردنية مثل المسجد الأقصى الذي تزداد الانتهاكات الصهيونية ضده يومياً كأن شيئاً لم يكن، لا بل في ظل تحسن العلاقات الرسمية الأردنية-الصهيونية. وقد أثيرت هذه المسألة مراراً في الصحافة وفي مجلس النواب الأردني، لكن القرارات السيادية تؤخذ في مكانٍ آخر في البلاد: الديوان الملكي ودائرة المخابرات العامة!
وقد بات يتضح أكثر فأكثر أن النسخة الصهيونية من “السلام” لا تتعلق فقط بالتنسيق الأمني والتطبيع بلا اي تنازلات سياسية تذكر، بل بإعادة تشكيل البيئة الجغرافية-السياسية في الإقليم من خلال تفكيك الدول العربية على طريق إقامة “شرق أوسط” جديد يتألف من عشرات الدويلات الطائفية والعرقية والجهوية المفتقدة لأي ناظم مشترك سوى الأقطاب الإقليمية التي تطمح “إسرائيل” أن تكون أكبرها. وقد كان دور تل أبيب واللوبي الصهيوني فاعلاً في الدفع لتدمير العراق وتفكيكه، وفي تفكيك السودان، وفي التحريض باتجاه ضرب الدولة المركزية في سورية.
في مثل ذلك السياق الجغرافي-السياسي يفترض بالأردن أن يتحول لـ”وطن بديل” للفلسطينيين وغير الفلسطينيين، كما ناقش الكنيست علناً، وهو ما يؤشر على نية واضحة بتخريب أي “حل سياسي” للصراع، من منظار من يؤمنون بمثل تلك الحلول السياسية، ويُظهِر من منظارنا أن “معاهدات السلام” كلها لم تكن أكثر من أحصنة طروادة لإعادة تشكيل المنطقة بشكلٍ يلائم المصالح الصهيونية.
اقتصادياً لم تتحقق وعود “أسهم السلام” بالنسبة لأغلبية الأردنيين. فإذا أخذنا المناطق الصناعية المؤهلة نموذجاً على “الجوائز الاقتصادية للسلام” سنجد أن القسم الأكبر من الشركات والعمال والأرباح المتراكمة من ذلك المشروع لم تكن أردنية. ويمكن القول بشكلٍ عام أن الفوائد الاقتصادية للسلام كانت محض هراء، وقد شهد اقتصاد الأردن منذ التوقيع على وادي عربة اتجاهاً عاماً لتزايد المديونية وانتقالاً لشركات القطاع العام بالجملة لأيدي الشركات الأجنبية، وارتبط التطبيع بازدياد التبعية للغرب عامة، ونقول هذا مع التأكيد أن التطبيع سيكون مرفوضاً حتى لو كان مجدياً من الناحية الاقتصادية.