د. إبراهيم علوش
محاضرة ألقيت في فرع رابطة الكتاب الأردنيين في الزرقاء مساء يوم 1/10/2013
أولاً: في تعريف التطبيع:
التطبيع يعني جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً، ولا يعني بالضرورة إعادة الأمور إلى طبيعتها كما يذهب البعض. وفي علم الإحصاء وقواعد البيانات ثمة مصطلح علمي هو “تطبيع البيانات”، بمعنى جعل البيانات الإحصائية أكثر قابلية للاستخدام في البرمجة والتحليل (Normalization of Data) مما هي في حالتها الخام قبل تطبيعها. بالتالي، لا ضرورة للإصرار على استخدام مقاومة الصهينة بدلاً من مقاومة التطبيع، باعتبار التطبيع يمثل “عودة مزعومة لوضعٍ معين كان يوماً ما طبيعياً”، كما يذهب بعض الأصدقاء والزملاء الكرام بكل حسن نية. فالتطبيع هو جعل العلاقات طبيعية بين طرفين ليست العلاقات بينهما طبيعية حالياً، سواءٌ كانت طبيعية سابقاً أم لا… ولا حرج بالتالي من إطلاق تعبير “مقاومة التطبيع” على من يقاومون جعل العلاقات طبيعية بيننا وبين الكيان الصهيوني.
وفي اللغة تأتي لفظة تطبيع على وزن “تفعيل”، فهي عملية وصيرورة دائبة وصولاً لتحقيق غاية، لا خطوة واحدة عابرة سريعة أو غير سريعة. فالتطبيع نهج وأداء وعقلية جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو إستراتيجية أو غيرها.
لكن بغض النظر عن الشكل، فإن فحوى التطبيع مع العدو الصهيوني يبقى واحداً وهو جعل الوجود اليهودي في فلسطين أمراً طبيعياً، وبالتالي فإن أي عمل أو قول أو صمت أو تقاعس يؤدي إلى التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كأمر طبيعي يحمل في طياته معنىً تطبيعياً.
وهنا ندخل في صراع مبدئي فوراً مع من لا يرى في التواجد اليهودي في فلسطين مشكلة، متجاهلاً أنه احتلال وأنه يمثل التجسيد الديموغرافي للفكرة الصهيونية في فلسطين، فتراه يعترف به، وبكل حماسة، تحت ستار مقولات مخترقة تطبيعياً بالتعريف مثل مقولة “الدويلة الفلسطينية” و”الدولة الواحدة” و”قرارات الشرعية الدولية” وما شابه، لأنها مقولات تتضمن قبولاً إما بالتواجد اليهودي في فلسطين، وإما بدولة “إسرائيل”، بشكلها الحالي، أو كدولة من المطلوب “إصلاحها ديموقراطياً وسلمياً من الداخل”…!!!!!!!!!
إذن جوهر التطبيع هو كسر حاجز العداء مع الكيان الصهيوني بهدف جعل الاحتلال الاستيطاني الإحلالي في فلسطين أمراً طبيعياً أو مقبولاً أو عادياً.
ثانياً: تطبيع ثقافي أم هيمنة؟
سبق أن تناولنا مفهوم التطبيع بشكل عام، غير أن مفهوم التطبيع الثقافي يحتاج إلى وقفة متأنية بحد ذاته. فالتطبيع، إن كان يعني إقامة علاقات طبيعية بين دولتين متعاديتين أو غير متعاديتين، فإنه لا يفترض أبداً تدخل إحداهما في وسائل إعلام الدولة الأخرى وخطب الجمعة والمناهج الدراسية والإنتاج الفني والأدبي، كما تحاول دولة العدو الصهيوني أن تفرض في علاقتها مع الدول العربية التي تطبع علاقاتها معها، وكما تنص المعاهدات المعقودة مع العدو الصهيوني.
كما أن ثمة قوى كبيرة في المجتمع الصهيوني لا تعترف أصلاً بحق الفلسطينيين بالتواجد على أرض فلسطين، أو لا تعترف لهم بحقوق أصيلة على أرضهم، وتتعامل معهم كأجانب، حتى أن مفهوم “الدولة اليهودية”، أي الدولة الخالصة لليهود، بات مفهوماً مسيطراً في الخطاب السياسي الصهيوني، فكيف يُطالب العرب بتغيير منظومتهم الثقافية – القيمية والمفهومية – لتقبل الآخر الذي لا يتقبلهم ابتداءً، والذي يقوم وجوده على نفيهم جسدياً وإلغائهم ثقافياً؟!
ولعل جذر المشكلة يكمن هنا في مفهوم ثقافي يهودي متأصل في التلمود، وبات إرثاً ثقافياً لغير المتدينين من اليهود، يعتبر “الإغيار”، أو غير اليهود، بهائم خلقها الله عز وجل على هيئة البشر لخدمة اليهود، ويعتبر اليهود “شعب الله المختار”، ويبيح لليهود التعامل معهم بمقاييس “أخلاقية” مختلفة تماماً عن تلك التي يجدر التزامها بين اليهود في تعاملاتهم مع بعضهم البعض (كما وثق الكاتب إسرائيل شاحاك في كتابه “التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية، وطأة ثلاثة آلاف عام”، وغيره عدد كبير من الكتاب، كما نظهر لاحقاً). فكيف يُطالب العرب مثلاً بحذف آيات قرآنية من مناهجهم التعليمية يزعم الصهاينة من يهود وغير يهود أنها تحرض عليهم، ولا يفرضون الأمر عينه على من يقتطفون تلك الفقرات العنصرية الدموية من كتبهم وتفسيراتها؟!
المشكلة الأخرى هي أن “إسرائيل” لم تحسم هويتها الثقافية المتميزة (إذ جاز الحديث عن هوية ثقافية متميزة لدولة ومجتمع احتلال استيطاني يحتوي خليطاً عجيباً من الأعراق والثقافات). فهل “إسرائيل” دولة ذات ثقافة شرقية أم غربية؟ ذلك هو السؤال المهم. فإذا كانت تصر على اعتبار نفسها دولة غربية، كيف يمكن أن تنشأ علاقات ثقافية طبيعية بين المحيط العربي والإسلامي وتلك القلعة الغربية المسماة “إسرائيل”؟! وما دمنا لا نتحدث هنا عن تبادل تجاري أو علاقات سياسية أو ديبلوماسية فحسب، كيف سيعيش بيننا بشكل “طبيعي” ذلك التجمع اليهودي المستورد على أرض فلسطين المحتلة وهو يصر على اعتبار نفسه امتداداً لأوروبا في المشرق حسب المقولة الصهيونية الشهيرة: “إسرائيل دولة غربية نيّرة تعيش في محيط من الدول العربية الشرقية الديكتاتورية والمتخلفة”؟!
المشكلة الثقافية الأخرى، وهي مشكلة لا تمس العرب وحدهم، تتعلق بالحساسية الثقافية المفتعلة، بل قل الدينية، المتعلقة برواية “المحرقة”، وفرض تقديسها على كل شعوب الأرض، ومنع مناقشتها قطعياً، وهو منع تتهيب تخطيه حتى بعض وسائل إعلام المقاومة العربية أحياناً للأسف، في الوقت الذي يصبح فيه “تجاوز الحساسيات الدينية” شرطاً من شروط التطبيع الثقافي فعلياً، إلى أن يصبح الاعتراف الشعبي والنخبوي العربي غير المشروط بأساطير “المحرقة” خرم الإبرة الذي يفترض أن يمر عبره أي “تطبيع ثقافي” حقيقي…
تلك إذن معادلة للتطبيع الثقافي لا يمكن حلها أبداً، حتى لو افترضنا جدلاً تقبل العرب الكامل لمبدأ العلاقات الثقافية الطبيعية، إلا بقيام علاقات غير متكافئة وغير طبيعية. وانعدام التكافؤ يصير هكذا في صلب التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني، فإننا هنا لا نتحدث عن تطبيع بمعناه الحرفي، بل عن علاقة هيمنة ثقافية تتمم علاقة الهيمنة السياسية والتجارية والأمنية وغيرها، أي أن التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني لا يمكن أن يكون أمراً طبيعياً.
فإذا كان هذا معنى التطبيع الثقافي كما يفهمه العدو الصهيوني، فإن مشروع الهيمنة الثقافية الصهيونية على المحيط، أي مشروع فرض الرواية والرؤية والراية الصهيونية على عقول العرب وقلوبهم بات يقتضي: 1) تذليل العقبات الثقافية أما تقبل الهيمنة الصهيونية والتواجد اليهودي في فلسطين، أي التغلب على المقاومة، و2) إعادة تشكيل المنطقة ثقافياً كوعاء قادر على تعزيز عناصر قوة المشروع الصهيوني، أي التغلب على المقاومة والممانعة الثقافية العربية.
أما تحقيق هذين الهدفين الإستراتيجيين فيقتضي: 1) شطب هوية المنطقة العربية والإسلامية (التي تشمل حتى غير العرب وغير المسلمين الذين يعيشون فيها)، و2) نسف ثقافة أبناء المنطقة وتفكيكها، وهو المشروع الذي تشارك فيه الإمبريالية العالمية أيضاً من خلال وسائل الإعلام المعربة ومنظمات التمويل الأجنبي.
التطبيع الثقافي والإعلامي حجر زاوية في الإستراتيجية الصهيونية، وبند رئيسي دائم على رأس أجندة المفاوضين الصهاينة والوسطاء الغربيين. لكن ذلك لا يجوز أن يفهم منه أنهم يقصدون علاقات ثقافية طبيعية أو متكافئة كما قد يوحي المصطلح حتى لو تجاوزنا كل تحفظاتنا المبدئية عليه، إذ أن لدى الصهاينة منطلقاتهم الثقافية وتكوينهم الذي يمنعهم من التطبيع معنا حتى وهم يطالبوننا بالتطبيع معهم. المقصود بالتطبيع الثقافي إذن هو فتح أبواب العقول والقلوب التي تحاصر القلعة الصهيونية لكي تتمكن “إسرائيل” من اختراق محيطها ثقافياً ووجدانياً وتغيير مفاهيمه وقيمه. نحن نتحدث عن مشروع إلحاق ليس فقط فيما يتعلق بحالة العداء المتأصلة تجاه العدو الصهيوني، بل أن إزالة حالة العداء نفسها تتطلب هدم وإعادة هدم كل شيء عربي حتى لا تبقى ثمة عروبة ولا تبقى أصالة أو نهضة… فقط محيط من الخراب الثقافي لا يمكن أن يشكل يوماً خطراً على “إسرائيل”. فنحن نتحدث فعلياً هنا عن سرطان ثقافي لا يمكن أن يتعايش مع بيئته إلا ليفتك بها.
إذن جوهر التطبيع الثقافي هو إعادة تشكيل منظومة القيم والمفاهيم العربية صهيونياً، وهو ما يتطلب ضرب فكرة المقاومة من جهة، وفكرة العروبة من جهة أخرى.
ثالثاً: ترجمة “الأدب العبري الحديث” إلى العربية مشروع لإدخال “إسرائيل” إلى المشهد الثقافي العربي
برزت في مصر منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيوني إشكالية الترجمة من وإلى العبرية. وهي إشكالية تمس المشهد الثقافي العربي برمته لا المصري فحسب. وقد انجر مثقفون وكتاب وأدباء عرب من أقطار عربية متعددة إلى السجال الدائر حول هذه القضية البرمائية، التي تغطس تحت سطح الحدث الثقافي مطولاً فقط لتعود وتطفو فوقه من جديد.
ولا يكاد يمر شهر أو شهران حتى تثار قضية الترجمة من وإلى العبرية في العناوين الثقافية الرئيسية أو الثانوية بصورة أو بأخرى، ومن ذلك مثلاً لا حصراً: إصدار ترجمة عبرية لديوان “جغرافيا بديلة” للشاعرة المصرية إيمان مرسال بموافقتها، كما جاء في العناوين الثقافية لشهر تشرين الأول 2009.. وبينما كان فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق يقوم بحملة انتخابية في صيف عام 2009 للفوز برئاسة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، أعلنت وزارة الثقافة المصرية أنها على وشك التعاقد مع دار نشر أوروبية لترجمة مؤلفات الكاتبين “الإسرائيليين” آموس أوز وديفيد غروسمان إلى العربية..
وقد ترافق ذلك مع إعلان حسني عن استعداده لزيارة الكيان الصهيوني في حال فوزه في المنصب (الذي ذهب في 22/9/2009 للبلغارية إيرينا بوكوفا).. وفي عام 2007 ترجمت دار نشر ابن لقمان رواية “ياسمين” لكاتب “إسرائيلي”.. وتتولى نفس الدار ترجمة سلسلة “كيف يرانا الإسرائيليون” وسلسلة “المجتمع الإسرائيلي كأنك تراه”.. وقد صدرت عنها أيضاً مذكرات السفير “الإسرائيلي” الأسبق في القاهرة موشيه ساسون وكتاب “اليسار المصري والصراع العربي الإسرائيلي” ليوسي أمتاي…
وفي كل مرة كانت تعود فيها قضية الترجمة من وإلى العبرية إلى السطح كان يثور السجال مجدداً حول ما إذا كانت تطبيعاً أم معرفة ضرورية “للآخر”! وقد ذهب البعض إلى اتهام العرب بالجهل لأنهم يرفضون معرفة “إسرائيل”، في الوقت الذي يقوم فيه “الإسرائيليون” بترجمة الأدب العربي المعاصر منهجياً من عقود، من نجيب محفوظ إلى توفيق الحكيم إلى محمود درويش إلى صنع الله إبراهيم إلى عبد الرحمن منيف وغيرهم كثر… ناهيك عن الترجمات السياسية والفكرية.
ولكن لماذا يتجاهل “محبو المعرفة” ممن يروجون لترجمة الأدب “الإسرائيلي” أن مثل تلك الترجمات هي بالأساس مشروع مؤسسي منظم للدولة الصهيونية نفسها؟ وقد أسست لهذا الغرض عام 1962 “معهد ترجمة الأدب العبري” الذي يقول في موقعه على الإنترنت أنه يقدم “الدعم المالي لدور النشر التي تتولى ترجمة الأعمال الأدبية الإسرائيلية الحديثة بصورة مستقلة”، و”للمجلات التي تخصص أعداداً خاصة للأدب العبري الحديث، وللناشرين الذين ينشرون مقتطفات منه”… بالاتفاق مع المعهد طبعاً. وقد تولى ذلك المعهد على مر السنين نشر وتعميم مئات الأعمال الأدبية “الإسرائيلية” حول العالم، وصدرت عنه بالتالي آلاف العناوين بلغاتٍ عدة. كما أنه يرتب زيارات لكتاب وصحفيين وناشرين أجانب للتعرف على نظرائهم “الإسرائيليين”… وموقع “معهد ترجمة الأدب العبري” على الإنترنت موجود لمن يود التأكد مما ورد هنا، وسيجده على الصفحة الأولى لذلك الموقع.
إذن، ثمة أموال تضخ، وجهود تبذل، واتصالات تجري، وخطط توضع، من أجل إقناع العالم بأن هنالك دولة طبيعية أسمها “إسرائيل” تنتج أدباً وفكراً وحضارة، وهو مشروع تطبيع ثقافي على مستوى عالمي تحركه عقدة نقص متجذرة في حداثة سن تلك الدولة المفتعلة التي تعرف في قرارة نفسها أنها كذبة بلا تاريخ ولا حضارة… فهي التي تتلوى لكي نعترف بها ثقافياً، وليس العكس. أما إقناع المواطن العربي بأن ثمة دولة طبيعية اسمها “إسرائيل” تنتج ثقافةً وأدباً لا بد من التواصل معهما وتقديرهما فلا يمكن إلا أن يكون مشروعاً تطبيعياً من الدرجة الأولى، أو مشروعاً لإدخال الكاتب “الإسرائيلي” في النسيج الثقافي… والروائي والشعري، العربي.
وابتداءً لا بد أن تجري الترجمة على خطين، من العربية إلى العبرية وبالعكس، لتحقيق التطبيع الثقافي الذي لا يتحقق إذا جاء البث باتجاه واحد فقط… على الأقل في المرحلة الأولى، حتى يتم تكريس المرجعية الثقافية “الإسرائيلية” في “الشرق الأوسط الجديد” المفكك إلى معازل والفاقد لهويته العربية. فنحن لا نتحدث هنا إذن عن ترجمة بضع كتب أو روايات أو دواوين شعرية كيفما اتفق، بل نتحدث عن اختراق وعن معالم مشروع ثقافي لدولة توسعية محتلة، فهل يصح أن نتعامل مع مشروع “إسرائيل” الثقافي بمعزل عن مشروعها السياسي؟!
ومن المنطقي أن تكون الخطوة الأولى في ذلك المشروع الثقافي هي تكريس “إسرائيل” كدولة طبيعية، ومد قنوات “التواصل الأدبي” المفتوح معها، وفرض إنتاجها الأدبي كإنتاج “حضاري” لا يختلف عن إنتاج أية دولة طبيعية أخرى. ونحن أبناء هذه المنطقة الأصليين لم نأتِ إليها من بولونيا وروسيا برعاية الاستعمار الغربي، ولم يأتِ إنتاجنا الأدبي على حين غرة بلغة هجينة ليست حتى عبرية أصلية… نحن ورثة اللغة العربية والحضارة العربية-الإسلامية العريقة علينا أن نحمي ثقافتنا من الاختراق، وأن نكشف ما يسمى “الأدب العبري الحديث” كنتاج طارئ مفتعل لأنه نتاج دولة ومجتمع طارئ ومفتعل… والعقدة هنا لا تكمن في ما إذا كانت الترجمة من العبرية تجري من خلال الاتصال المباشر بدور نشر “إسرائيلية” وكتاب “إسرائيليين” أم لا، فترتيب مثل تلك الاتصالات يمكن أن يجري مع المطبعين بسهولة من خلف الستائر… بل تكمن المشكلة الأعوص في التعرف على ملامح مشروع إيصال الثقافة “الإسرائيلية” إلى الطفل العربي والطالب العربي والمرأة العربية والمواطن العربي… ويصبح من مهمات المقاومة الثقافية كيفية التصدي لمثل ذلك المشروع.
ولكن، بالمقابل، ألم يكن دخول كاتب هذه السطور مثلاً إلى موقع “معهد ترجمة الأدب العبري” وتفقد ما فيه شكلاً من أشكال التطبيع الثقافي أيضاً؟
قبل أن نتحدث عن الترجمة من أجل “معرفة الآخر” علينا أن نحدد موقفنا من هذا “الآخر”: هل هو عدو، أم جار نود التعرف إليه، أم ماذا؟ فإذا كان عدواً، فمن الواجب أن نعرفه طبعاً وأن نعرف لغته وفكره ومجتمعه وكل شيء عنه، ولكن شتان ما بين هذا وفتح الأبواب بالكامل لتغلغل ذلك العدو في ثنايا مجتمعنا وفكرنا الجمعي ونخبنا الثقافية من خلال الكتاب والفيلم والمحاضرة والمشروع الثقافي “الإسرائيلي” الرسمي. إن عدواً وجودياً ونقيضاً تاريخياً مثل العدو الصهيوني تصبح معرفته جزءاً ضرورياً من مشروع المقاومة العربية، وهو ما يتطلب مؤسسات ثقافية وإعلامية مقاوِمة، ونخبة ثقافية وإعلامية مقاومة، ومثقف مرتبط بأمته وقضاياها، لا مثقف مستلب معادي لأمته يشعر بالدونية تجاه العدو ويتعطش لنيل الاعتراف الثقافي منه.
أما الذين يتحدثون عن ضرورة معرفة الآخر، ضمن حسابات سمسرة ثقافية من الواضح أنها مشبوهة سياسياً ومالياً، فإنهم لا يميزون ما بين ضرورة متابعة إعلام العدو وتياراته السياسية والفكرية المختلفة وما بين الترويج ل”حقه” بالتواصل الثقافي غير المقيد مع المواطن العربي. وهم لا يتحدثون عن ترجمة مفلترة مدروسة منهجية ومؤسسية تكشف لنا العدو وتمكننا من الاستفادة من إنجازاته العلمية والتكنولوجية والعسكرية، وتعرفنا على خططه ومشاريعه السياسية والأمنية مثلاً، لا! إنهم لا يطرحون مشروعاً للمقاومة الثقافية بل يطالبوننا بالاعتراف بحق العدو باختراق الوجدان الجمعي العربي من خلال الشعر والرواية والنص المسرحي وما شابه. إنهم يتحدثون عن ترجمة “الأدب العبري الحديث” أساساً في سياق مشروع “معهد ترجمة الأدب العبري” سابق الذكر..
كما أنهم ينوحون على “جهل” العرب لرفضهم التواصل الفكري والحضاري مع العالم، حسب زعمهم، لكننا لا نراهم يطالبون بترجمة الكنوز الأدبية والفكرية العظيمة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب التي تقزم أي إنتاج أدبي مزعوم لمجتمع مصطنع يقوم على القتل والإرهاب والاحتلال. وهم لا ينوحون بالمقابل على غياب الرؤى الثقافية الإستراتيجية لدينا، وعلى عدم وجود معاهد متخصصة في الوطن العربي (مثل معهد ترجمة الأدب العبري) لترجمة الأدب العربي الحديث الذي ما برح يعتمد في الأعم الأغلب على القدرات والإمكانات الفردية للكتاب العرب.
وفي النهاية، وبعيداً عن حملة التسويق “الإسرائيلية” الرسمية، لا يوجد إنتاج أدبي “إسرائيلي” متميز إلى درجة تجعل عدم تمثله خسارة لا تعوض… فقضية الترجمة من العبرية هي في المحصلة قضية سياسية قبل أن تكون ثقافية، إنها قضية الاعتراف ب”إسرائيل”، ولولا ذلك لرأينا من يطرحونها يطلبون العلم في الصين قبل أن يطلبوا الأدب ممن يحتلون فلسطين!
ملحق: مع من نطبع؟ أحكام علاقة اليهود بالأغيار
لم يكن ارتداد اليهود ابتداءً من القرن التاسع عشر بعيداً عن حركة التنوير اليهودية (الهاسكالاة) الداعية لاندماج اليهود على قدم المساواة في الشعوب التي يعيشون بينها ليأتي بالصورة الصهيونية العنصرية والاستعمارية التي جاء عليها لو لم تكن ثمة عناصر أصيلة في الديانة اليهودية نفسها تدعمه وتقدم له إمكانيات النجاح.
وقد يعترض معترض هنا بأن تحميل اليهودية مسؤولية “شطط” الصهيونية لا يصح منهجياً إلا بمقدار ما يتحمّل أي دين أو عقيدة مسؤولية الشطط الذي تحدثه جماعة من اتباعها.
ولكن اليهودية ليست كباقي الأديان والعقائد المعروفة لأن العنصرية والاستعمار لا يمثلان انحرافاً عنها بقدر ما يمثلان التأويل الأساسي، ولو لم يكن التأويل الوحيد، لها.
وقد ترجم الكاتب إسرائيل شاحاك نصوصاً عبرية قديمة من التلمود حول الكيفية التي يجب أن تدار بها علاقة اليهود بغيرهم لا يمكن أن تجد لها مثيلاً في أي ديانة أو عقيدة أخرى.
ولننتبه أن كل هذه الأحكام مقيدة بشرط مهم هو أن ممارستها من قبل اليهودي يجب أن تراعي عدم عودتها بالضرر على أي يهودي أخر على سبيل الانتقام أو غيره.
ومنها مثلاً: على اليهودي أن يلعن عند المرور بمقابر غير يهودية، وأن يترحم عندما يمر بقابر يهودية. وعليه أن لا يسعف جرحى أو مرضى الأغيار (غير اليهود)، أو الغريق أو الواقع في حفرة منهم، إلا إذا عاد ذلك بالانتقام على يهود.
وحسب منظومة الأحكام اليهودية الكلاسيكية المعروفة باسم الهاكالاة فإن قتل المدنيين من الأغيار عن سابق قصد وتصميم في الحرب ضرورة لا مفر منها يتعرض اليهودي الذي لا يراعيها لغضب الرب، وهو ما لا نستطيع أن نفصله عن الممارسات الصهيونية في فلسطين. أما في غير حالة الحرب، فإن اليهودي الذي يقتل غير يهودي بتعمد، فإنه يعتبر مذنباً أمام الله ولكن ليس أمام القانون. فإذا قتل اليهودي غير اليهودي بطريق الخطأ، فإنه لا يعتبر مذنباً لا أمام الله ولا أمام القانون.
ومن امتيازات اليهودي على الأغيار في هذه الشرائع حقه في تضليلهم، في السياسة والتجارة والعلاقات الشخصية. مثلاً، تمنع السرقة على اليهودي بتاتاً، ولكن من حقه أن يمارسها في التجارة مع غير اليهود بشكل غير مباشر إذا كانت تتضمن “تشغيل عقل”. وكذلك يسمح بالنصب، ويسمح بالسطو العنيف من الأغيار إذا كانوا تحت حكم اليهود، وهو الأمر الذي يقلل من احتمالات الانتقام من يهودي أخر. وكذلك يحق لليهودي أن يأخذ أو أن لا يأخذ الربا من يهودي أخر، ولكنه ملزم بأخذ الربا من غير اليهودي إلا بمصلحة، حيث أن الهاكالاة تحظر الهدايا لغير اليهود دون مقابل!
وهناك كثير غير ذلك ينسج على نفس المنوال مما ترجمه إسرائيل شاحاك. ولكن د. عبد الوهاب المسيري يعترض على تعميم هذه القوانين التشريعية اليهودية على كل اليهود باعتبار الذين أسسوا دولة “إسرائيل” من العلمانيين والملحدين الذين لا يعترفون بهذه الأحكام بالضرورة. ولكن هذه الرؤية تتجاهل حقيقة أن اليهودية، مثل أي دين، ليست مجموعة من الشعائر والأحكام فحسب، بل ثقافة يتشرب أبناؤها الكثير من قيمها ومفاهيمها منذ الصغر. والإسلام كثقافة (مختلفة بالتأكيد) تجده بقوة مثلاً في كافة شرائح المجتمع العربي، حتى بين غير المتدنيين وغير المسلمين من العرب.
للمشاركة على الفيسبوك: