د. إبراهيم علوش

23/12/2012

شاع في الكيان الصهيوني، بشكل متزايد خلال السنوات المنصرمة، تداول مصطلح “يهودية الدولة” في الإعلام والكنيست وخطاب القوى والشخصيات السياسية، خاصة تلك القادمة من صفوف اليمين واليمين المتطرف.  والمقصود بهذا التعبير، بعد إزالة كل الغبار الجدالي من حوله، تكريس دولة “إسرائيل” كدولة يهودية، تقتصر مواطنتها على اليهود، ويصبح فيها “الأغيار”، أي غير اليهود، إن وجدوا، “ضيوفاً” أو “اقليات” أو “مقيمين” بشكل قانوني أو غير قانوني…

ويثير برنامج “يهودية الدولة” الذي يسعى اليمين واليمين المتطرف الصهيوني لفرضه بوسائل شتى، على الأرض، وعبر القوانين، وفي الإعلام، نوعاً من الفضول والاستغراب من بعض مناهضي الصهيونية ومؤازريها أحياناً: ما الداعي لمثل هذا التركيز المتصاعد على “يهودية إسرائيل” خلال السنوات الأخيرة؟!  أليست “إسرائيل” هي بالضبط “دولة اليهود”؟!  ألا يتعامل معها أصدقاؤها وأعداؤها، على حدٍ سواء، على هذا الأساس، منذ نشأت؟!  إذن ما هو سر هذا الإصرار المتزايد على “يهوديتها” الحصرية اليوم؟!

وقد جاء “إعلان الاستقلال”، كما يسمي الصهاينة تأسيس دولتهم في 15 أيار 1948، واضحاً في تأكيده على اعتبار تلك الدولة، حرفياً، “دولةً يهودية في أرض إسرائيل”.  وكذلك كان عنوان كتاب ثيودور هرتزل، الذي نُشر قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بعام، أي في عام 1896، “دولة اليهود”.  وقد انعقد المؤتمر الصهيوني الأول بزعامة هرتزل، في مدينة بازل في سويسرا، عام 1897، وقرر العمل على “إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين”.

من ثم جاء وعد بلفور في 2/11/1917.  وكان قاطع ذلك الوعد آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا بين عامي 1916 و1919، الذي أكد عبره على دعم حكومة بريطانيا لإقامة “وطن قومي لليهود في فلسطين”.

وعلى الرغم من الاختلاف النسبي في الدرجة، وليس في النوع، بين “الوطن القومي اليهودي في فلسطين”، و”يهودية إسرائيل”، لأن “الوطن القومي اليهودي” لا يستبعد بالضرورة وجود فئات وأقليات غير يهودية في فلسطين، فإن المبدأ الصهيوني يبقى واضحاً في اعتباره فلسطين “دولة اليهود”، وهو ما لا يبعد كثيراً عن حصرية “يهودية الدولة” التي تمثل صهيونيةً “أنقى”، بمعنى من المعاني،  كما تمثل نتيجة منطقية لآلية عمل الحركة الصهيونية وفكرها القائم على الاحتلال والإحلال من جهة، وعلى التعالي العنصري أو الديني من جهة أخرى.  فالصهاينة الداعون للتمسك بمبدأ “يهودية الدولة” هم صهاينة أكثر وضوحاً، يكشفون زيف القناع الليبرالي أو “الديموقراطي” لدى صهاينة “اليسار” والوسط… وهم بهذا المعنى أفضل لنا، لأنهم يصفعون الباب في وجه كل مشاريع “التعايش” و”التسوية” مع العدو الصهيوني، ويزكون بالتالي، دون قصد، خيار المقاومة.

لكن “يهودية الدولة”، بمعناها الواضح، أو المخفف في “وطن قومي”، لم تكن فقط مشروع الحركة الصهيونية التي ولدت رسمياً مع المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897.   فقد كانت قبل ذلك بعقود مشروعاً بريطانياً، عندما كانت بريطانيا هي القوة الإمبريالية الأعظم في العالم.  وقد شكلت مراسلات بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا مراراً بين عامي 1830 و1851، مع سفراء دولته في استطنبول ونابولي وغيرها، منجماً غنياً بالمعلومات حول المشروع الإستراتيجي البريطاني لمنع الوحدة العربية، بعد تجربة محمد علي باشا الوحدوية النهضوية العظيمة، من خلال إقامة “حاجز بشري غريب”، يفصل مصر عن المشرق العربي، ويمنع بالتالي وحدة الجناح الآسيوي مع الجناح الأفريقي للأمة العربية.

المقصود بالحاجز البشري الغريب طبعاً هو الإتيان بقومٍ مختلفين حضارياً ولغوياً وثقافياً لا ينتمون لنسيج المنطقة ووضعهم في فلسطين… ومن هنا مشروع دولة “إسرائيل” البريطاني الذي وضع أسسه الفعلية بالمرستون (مع أن نابليون كان قد دعا “الشعب اليهودي” لملاقاته في فلسطين خلال غزوه لمصر في نهاية القرن الثامن عشر، لكن ذلك لم يتحول إلى مشروع إستراتيجي مفعل على الأرض كما حدث مع بريطانيا).

ونستنتج من رسائل بالمرستون، والتركيز على إقامة “حاجز بشري غريب في فلسطين” أمرين:

الأول، أن فائدة ذلك الحاجز للإمبريالية العالمية في منع الوحدة العربية تقتضي أن يبقى غريباً، أي غير مندمج في المنطقة من الناحية الحضارية والثقافية، والصهيونية بصفتها التيار اليهودي الأوروبي الرافض للإندماج تصبح الأكثر تأهيلاً لإقامة مثل ذلك الحاجز.

الثاني، أن “يهودية الدولة” مصلحة موضوعية للإمبريالية، تقاطعت مع فكر الحركة الصهيونية.  وبالتالي فإن الإمبريالية غير معنية بتمييع “يهودية الدولة”، سواء عبر “عودة اللاجئين” أو عبر أي مشروع تسوية أو حل سياسي.

وقد تبنت الحركة الصهيونية العالمية ثلاثة أسس في سعيها لتحقيق مشروعها التاريخي بإقامة ذلك “الحاجز البشري الغريب” في فلسطين: 1) دعوة يهود العالم للهجرة إلى فلسطين، وتهجير الفلسطينيين منها، 2) شراء الأراضي في فلسطين، وإقامة المستعمرات فيها، لتحويل الأرض من عربية إلى يهودية، 3) الارتباط كجماعة وظيفية بالدولة الإمبريالية الأقوى، وبالتالي بالدولة المعنية أكثر من غيرها بفرض هيمنتها على الوطن العربي ومنع الوحدة العربية.

ويمكن أن نتبين ملامح مفهوم “يهودية الدولة” في التطبيق في كل من تلك الأسس الثلاثة.  فالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتهجير الفلسطينيين منها، والسيطرة على الأرض العربية الفلسطينية، والسعي لتغيير هويتها، وتأمين الغطاء الدولي للقيام بكل ذلك من قبل الدولة الإمبريالية المهيمنة، ليس في المحصلة إلا مشروع “تهويد فلسطين”، أي مشروع “يهودية الدولة” إذا أخذنا الأمور إلى نهاياتها المنطقية.   والمقصود هنا طبعاً، وبلا مواربة، تعرية تهافت من يقبلون ب”إسرائيل” سوى أنهم لا يريدونها “دولة يهودية” حصرياً!  فالمشروع الصهيوني، منذ نشأ، قام على تهويد الأرض وإقامة حاجز بشري غريب في فلسطين، و”إسرائيل” ليست إلا هذا، صراحةً أو مواربةً، والعربي الذي يريد “إسرائيل” مختلفة عن هذا يشبه من يحاول إقناع الضباع والكواسر أن تتحول إلى تناول الغذاء النباتي…

وقد بدأت الهجرة اليهودية، ذات الطابع الصهيوني، إلى فلسطين من خلال جهود اليهودي البريطاني “موشي مونتيفيوري”، خاصة بعد انتهاء حكم محمد علي باشا في فلسطين عام 1840، بعد حصول مونتيفيوري على الحماية والامتيازات من الدولة العثمانية، مما أدى لارتفاع عدد اليهود في فلسطين من حوالي 1500 عام 1837، إلى حوالي 15 ألفاً عام 1860، وقد تأسست أول مستعمرة لهم عام 1859، خارج أسوار القدس مباشرة، باسم “يمين موشي”.

لكن الهجرات الكبرى الثلاثة، وتأسيس المستعمرات الصهيونية بالعشرات، اشتد فعلياً في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، الذي حكم ما بين عامي 1876 و1909.  وقد جاءت الهجرة الكبيرة الأولى بين عامي 1882 و1884 من رومانيا وروسيا، وقدر عدد أفرادها بحوالي 25 ألف يهودي.  وجاءت الهجرة الكبيرة الثانية بين عامي 1890 و1895، وقد بلغت الأراضي المسيطر عليها يهودياً حتى ذلك الوقت 350 ألف دونم، وجاءت الهجرة اليهودية الكبرى الثالثة بين عامي 1904 و1914، أي مع بداية الحرب العالمية الأولى، وبلغ عدد اليهود في فلسطين مع نهايتها 85 ألفاً، وبلغت الأراضي التي يسيطرون عليها 420 ألف دونماً حسب بعض المصادر، و650 ألف دونماً حسب مصادر أخرى، وقد انخفض عدد اليهود في فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى من 85 إلى 55 ألفاً.

وتصاعدت الهجرة اليهودية، والاستيلاء على الأراضي، بدرجة أكبر بالطبع بعد مجيء الانتداب البريطاني، لكن أساس “يهودية الدولة” كان قد وضع في زمن سلاطين العثمانيين، خاصة السلطان عبد الحميد الثاني، من ناحية الهجرة وتأسيس المستعمرات وإقامة البنية التحتية للدولة، بغض النظر عن الترهات التي يروج لها البعض، ضمن أجندة سياسية مكشوفة، عن دور السلطان عبد الحميد المزعوم في الحفاظ على فلسطين… صحيح أنه لم يقبل بتأسيس “دولة يهودية” صراحةً في فلسطين، ولم يكن يملك ذلك أصلاً، لأنه كان سيحرقه سياسياً، لكن الاختراق الصهيوني لفلسطين لم يبلغ في عهد أي سلطان عثماني ما بلغه في عهده، وهو ما لا بد من التذكير به عندما يصر البعض على تزوير حقائق التاريخ ولي عنق الوقائع العنيدة الموثقة.

أما بالنسبة للارتباط بالدولة الإمبريالية المهيمنة، فقد تجلى ذلك مثلاً في خضم الحرب العالمية الثانية، عندما عقد 600 مندوب يهودي مؤتمراً في فندق بيلتمور، في مدينة نيويورك الأمريكية، في 6/5/1942، وقد شكل ذلك المؤتمر لحظة مفصلية في تاريخ الحركة الصهيونية لسببين:

الأول، انتقالها رسمياً من الارتباط ببريطانيا إلى الارتباط بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد بروز الأخيرة كالقوة الإمبريالية المسيطرة في العالم في خضم الحرب العالمية الثانية، ودخول حالة تناقض ثانوي مع بريطانيا عبر تلك البوابة،

الثاني، التأكيد على تأسيس جمهورية يهودية في فلسطين، اسماها المؤتمر “كومونولث يهودي”، رداً على الورقة البيضاء البريطانية عام 1939 التي بدا لليهود أنها تضيق على مثل ذلك المشروع، أو تؤجله، استمالةً للعرب في الحرب العالمية الثانية.

لكن تبني مشروع “الجمهورية اليهودية”، أي “الدولة اليهودية”، لا يبعد إلا مرمى حجر عن مشروع “يهودية الدولة”…

ولا يزال ذلك المشروع قيد التنفيذ اليوم، فهو يتخذ ابعاداً سياسية وقانونية وميدانية وإعلامية.  وليست “يهودية الدولة” مصطلحاً خطابياً فحسب.  على سبيل المثال، اتخذت حكومة نتنياهو خلال الفترة الأخيرة مجموعة من القرارات لإنشاء 2600 وحدة سكنية في مستعمرة حي جيعفات هاماتوس جنوبي القدس، و1500 وحدة سكنية في مستعمرة رامات شلومو شمالي القدس، و3000 وحدة سكنية في منطقة E1 بين القدس ومستعمرة معاليه أدوميم شرقي القدس، و3000 وحدة سكنية أخرى بين القدس والضفة الغربية…

وكل هذا يمثل خطوات عملية ميدانية باتجاه تهويد القدس وفلسطين، أي أنه يصب في مشروع “يهودية الدولة”.

ومثلاً، اتخذ وزير المواصلات في حكومة نتنياهو عام 2009 قراراً بتحويل الطرق والأماكن العربية في فلسطين المحتلة عام 1948 إلى أسماء عبرية.  فيافا تصبح يافو، وعكا تصبح عكو، الخ… وهذا يمثل تهويداً ثقافياً من أخطر أنواع التهويد، ناهيك عن محاولة فرض الرواية الصهيونية لتاريخ فلسطين بدلاً من الرواية الحقيقية العربية، ويبلغ تناقض هاتين الروايتين، المزيفة والحقيقية، ذروته القصوى عند الحائط الجنوبي الغربي للمسجد الأقصى: هل هو حائط المبكى، من هيكل سليمان المزعوم، أم حائط البراق؟  وهذا التناقض يمثل الوجه الديني للتناقض القائم على السؤال التالي: هل الأرض لنا أم لهم؟  وهل هي عربية أم يهودية؟  وهو ما يمثل لب الصراع، كيفما دار المرء  أو وصفه.

على صعيد القوانين والتشريعات، نلاحظ المزيد والمزيد من التضييق على أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948، وقد صادق الكنيست في 16/7/2003 على قانون يؤكد على “يهودية الدولة”.  وصادق في 10/10/2010 على اقتراح نتنياهو بأن يقسم الحاصل على الجنسية “الإسرائيلية” يمين الولاء ل”دولة يهودية” و”ديموقراطية”، بدلاً من الولاء لدولة “إسرائيل” فحسب.  وفي 28/3/2011، في خضم ما يسمى “الربيع العربي”، تبنى الكنيست قراراً بسحب الجنسية “الإسرائيلية” من كل من “يدعم الإرهاب” أو يمارسه.   وقبل اسابيع قليلة فقط، تبنت المحكمة العليا “الإسرائيلية” قراراً يعطل لم شمل المتزوجين والمتزوجات من فلسطينيي ال48، ويمنعهم من الإقامة مع عائلاتهم، مما سيؤثر على 150 ألف شخص.

ونلاحظ أن تلك القوانين، مثل الخطاب المتشدد بشأن “يهودية الدولة”، تصاعد بالأخص بعد احتلال العراق عام 2003، مع أنه يمثل استمراراً طبيعاً للنهج الصهيوني منذ وجد، وستكون لنا عودة للعلاقة بين مفهوم “يهودية الدولة” من جهة، ومشروع “الشرق الأوسط”، الجديد أو الكبير، لا فرق، من جهة أخرى، في نهاية هذه المعالجة.

المهم الآن أن خطاب “يهودية الدولة”، أولاً، يحل المشكلة الديموغرافية للكيان الصهيوني، من حيث تزايد نسبة العرب حاملي الجنسية “الإسرائيلية” من مجموع السكان.   فإذا كانت الدولة يهودية، فإن من هو غير يهودي فيها يصبح مقيماً، بشكل قانوني أو غير قانوني، مما يترك قضية إقامته قراراً سيادياً للدولة.  فالسائح والمهاجر والعامل الأجنبي في أي دولة لا يحق له أن يطالب بحقوق سياسية، سواء قررت الدولة السماح له بالبقاء فيها أم لا، وهذا يريح دولة “إسرائيل” من تهمة “العنصرية”، أو من غيرها مما تُرمى به الآن حول طريقة تعاملها مع العرب الذين يحملون جنسيتها.

وخطاب “يهودية الدولة”، ثانياً، يهيئ قانونياً لشطب أي مطالبة بالعودة إلى فلسطين من قبل اللاجئين الموجودين خارجها، إذا اعترف العالم، خاصة إذا اعترف بها العرب والفلسطينيون، ك”دولة يهودية”، مقابل دولة في حدود ال67 مثلاً، كما فعل ياسر عبد ربه مثلاً.

وخطاب “يهودية الدولة”، ثالثاً، يؤسس لحق “إسرائيل” بترحيل الفلسطينيين والجولانيين الموجودين فيها، ولو لم يُمارس مثل ذلك “الحق” فوراً، سوى أنه يبقى سيفاً مسلطاً فوق رؤوسهم يراد منه إجبارهم على الانصياع كالتلامذة النجباء، للمؤسسة “الإسرائيلية”.

وخطاب “يهودية الدولة”، رابعاً، يمثل اعترافاً بأثر رجعي بكل الإجراءات والخطوات والقوانين التي سنها الكيان الصهيوني وطبقها على الأرض العربية المحتلة، أي أنه يمثل اعترافاً بتهويد الأرض، خاصة من قبل أصحابها، وهو ما يتجاوز الاعتراف ب”حق إسرائيل بالوجود”، مع أن الاعترافين يقودان لبعضهما كحبات المسبحة.

وخطاب “يهودية الدولة”، خامساً، يهندس البيئة الاستراتيجية للتفاوض، بطريقة تفرض شروط العدو الصهيوني مسبقاً،  حتى عندما يكون صاحب ذلك الخطاب شخصية مثل شمعون بيريز، لا يحسبها أحد على اليمين واليمين المتطرف.  فلعبة الحركة الصهيونية تاريخياً هي المطالبة بالحد الأقصى، المنفلت من عقاله، حتى يبدو أي تنازل تفاوضي تقدمه بعدها وكأنه تنازل خطير انتزعته من لحمها.

ومن أجل هذا بالضبط، لا بد من التحذير بالوقوع بفخ المطالبة بدولة “ثنائية القومية”، أو “إسرائيل لكافة مواطنيها”، رداً على برنامج “يهودية الدولة”…  أو الإصرار على المشاركة في المؤسسات السياسية والأمنية “الإسرائيلية”، كالكنيست مثلاً، رداً على محاولة تهميش العرب في الكيان الصهيوني!

وقد سبق أن اشرت في مادة “مشروع الدولة الواحدة في فلسطين: هل المشكلة في يهودية الدولة أم في وجودها؟!“:

“يمكن أن يقودنا الحديث الدائر اليوم عن رفض ما يسمى “يهودية إسرائيل” باتجاهين: اتجاه تسووي تفريطي، وأخر جذري مقاوم.”

فهناك من يجعل مناهضته ليهودية دولة “إسرائيل” مدخلاً للتأكيد على مطلب “دولة لكافة مواطنيها” أو الدولة ثنائية القومية”، باعتبار ذلك رداً على الهوية اليهودية الصافية لدولة “إسرائيل”.  وهذا البرنامج يعني فعلياً: 1) نفي الهوية العربية عن فلسطين، باعتبارها لكافة مواطنيها من غزاة وغير غزاة، أو ثنائية القومية، عربية ويهودية، 2) المطالبة بالتعايش مع الغزاة في فلسطين تحت عنوان “حقوق المواطنة”، وهنا تصبح “مقاومة التمييز العنصري”، لا التحرير، إستراتيجيتنا الأساسية، 3) تبني الوسائل السلمية في النضال، بالأخص تلك التي تضم “تقدميين يهود” أو أمميين!”

والحقيقة أننا لا يجوز أن ننجر بخفةٍ وطيشٍ للمطالبة بالتعايش، وبحقوق “أقلية” على ارضنا، وبتقبل الغزاة لنا، لأن الصهاينة قرروا تبني برنامج “يهودية الدولة”.  بل يجب أن نصر على برنامجنا الأصلي، وهو الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، الذي يقول ببساطة أن فلسطين عربية من البحر إلى النهر، وأن اليهود فيها غزاة، وأنها لا تحرر إلا بالكفاح المسلح.

فالرد على خطاب “يهودية الدولة” لا يكون بتبني خطاب رث من نوع: “نرجوكم أن لا تهمشونا في دولة إسرائيل!”، و”نرجوكم أن تفسحوا لنا حيزاً صغيراً على أرضنا التي تحتلونها!”، حتى لمن يريدون التفاوض، ويريدون دويلة سخيفة، باتت اليوم غير ممكنة أكثر وأكثر، في حدود ال67… واحمد الله واشكره كثيراً أنني لست من هذين الصنفين…

وقد سبقت الإشارة أعلاه أن خطاب “يهودية الدولة” تصاعد وعلا بالأخص بعد احتلال العراق عام 2003، مع أنه كان موجوداً قبلها، ومع أن “يهودية الدولة” هي الثمرة الطبيعية ل”الدولة اليهودية”، ومع أن “يهودية الدولة” هي الخطوة المنطقية التالية للحركة الصهيونية بعد مقولة “الوطن القومي اليهودي”.  لكن الخطاب السياسي الذي تتبناه بشكل متزايد شرائح أوسع وأوسع من اليهود الصهاينة، وغير اليهود من الصهاينة، لا يعكس خدعةً تكتيكية أو حبكة إعلامية عابرة، بل يعكس تزايد انتقال الجمهور الصهيوني إلى اليمين، ويعبر عن النزعة العنصرية المتأصلة في الفكر اليهودي الصهيوني، فكر “شعب الله المختار” و”أرض الميعاد”، لا بل أن “يهودية الدولة” هي النتاج التاريخي لفكرة “أرض الميعاد”!

بيد أن المشروع السياسي لا يمثل نزعة يمكن أن نتركها لعلم الاجتماع السياسي فحسب.  ف”يهودية الدولة” تمثل الجزء المكمل لمشروع “الشرق أوسطية”.  و”الشرق الأوسط”، كتعبير استعماري، يحمل كثيراً من المهانة لأبناء وطننا.  فأنت لا تسمع من يقول عن أوروبا الغربية “الغرب الأوسط”، وعن أمريكا الشمالية “الغرب الأقصى”!

لكن “الشرق الأوسط” كمشروع إمبريالي-صهيوني مشترك يصبح هنا مشروعاً ضرورياً لبقاء “إسرائيل” واندماجها في المنطقة من موقع فوقي، أي من موقع المهيمن الذي يحول بلادنا إلى إمبراطورية “إسرائيلية”.

ويقوم مشروع “الشرق الأوسط” على دعامتين:

الأولى، نفي الهوية المشتركة للمنطقة، والتعامل مع العرب خارج الجزيرة العربية كاحتلال (وهو ما ندحضه في كتاب “أسس العروبة القديمة”)، وإبراز النزعات الطائفية والعرقية والمناطقية في بلادنا باعتبارها قضايا “حق تقرير مصير” تتطلب الانفصال وتشكيل دويلات خاصة بها، من العراق للسودان، ومن سورية لليبيا، ومن الجزائر لليمن.

ففي بيئة من هذا النوع، يصبح وجود “إسرائيل” طبيعياً، لا بل مرغوباً، أما إذا كان هذا الجزء من العالم هو الوطن العربي، لا “الشرق الأوسط”، فإن “إسرائيل” لن تصبح دولة طبيعية مقبولة فيه يوماً.

الثاني، تفجير الصراعات والنزاعات، خاصة النزاعات الطائفية، وعلى رأسها الصراع السني-الشيعي في بلدان المشرق العربي، وهنا نصل إلى بيت القصيد، لأن “يهودية الدولة” هي المتمم الطبيعي للدولة السنية والشيعية والدرزية والمسيحية الخ…  واليمين الصهيوني الداعي لنقاء وصفاء “الدولة اليهودية” هو المتمم الطبيعي لدعاة الدولة المذهبية العربية، بغض النظر عن نوع مذهبها، ولدعاة الانفصال على أسس عرقية من دارفور إلى غيرها، خاصة أن الحركة الصهيونية تقدم نفسها كحركة قومية-دينية، لا كحركة دينية فحسب.

ومن الملفت أن القاسم المشترك بين دعم “الدولة اليهودية” ودعم الحراكات الطائفية والانفصالية في الوطن العربي هو هنري برنار ليفي، القائد العام لما يسمى “الربيع العربي”.  ففي بيئة تزدهر فيها الدويلات الطائفية المتعصبة، تصبح “يهودية الدولة” تحصيل حاصل، ويصبح من الطبيعي أن يكون نتنياهو واليمين الصهيوني، من أكبر مؤيدي إسلامويي “الثورة السورية”، والإسلام منهم براء.

ونحن نذهب الآن باتجاه إعادة هيكلة إستراتيجية للوطن العربي لخلق حزام جغرافي-سياسي يمنع تمدد نفوذ روسيا والصين الصاعدتين في مواجهة الناتو والولايات المتحدة الأمريكية.

وقد طُرح مشروع إعادة فك وتركيب المنطقة منذ أمدٍ بعيد، كما نلاحظ في وثيقة “كيفونيم”، ووثيقة “كارينجا” من قبلها، ومشروع المستشرق الصهيوني برنار لويس، أما التبني الفعلي لهذا المشروع كإستراتيجيات عملية لتحديث اتفاقية “سايكس-بيكو” التي قسمت المشرق العربي، فتبلور مع مجيء بوش مع فريق المحافظين الجدد للحكم عام 2000، وقد وضع المحافظون الجدد أنفسهم وثيقة “بداية جديدة” لنتياهو لإسقاط الأنظمة في سورية وليبيا والعراق وغيرها، وضرب المقاومة اللبنانية والفلسطينية، في عام 1996، قبل أحداث 11 سبتمبر بأمدٍ بعيد.

وإذا كان جورج بوش قد جرب تطبيق ذلك المشروع عبر “الحرب على الإرهاب” مباشرة، ومن فوق،  وبالقوة، وبشكل أحادي، ففشل، فإن مرحلة أوباما تمثل مرحلة التحول لتطبيق نفس المشروع عبر “الحرب الديموقراطية”، بشكل غير مباشر عامة، ومن تحت، وبالقوة الناعمة، وبشكل غير أحادي، خاصة بعد إعادة إحياء التحالف الناتوي مع الإسلامويين الذي كان قد فُصم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، فجاءت إعادة إحيائه في خطاب أوباما الشهير في القاهرة عام 2009، ويحكي لنا “الربيع العربي” بقية القصة…

وفي هذا السياق بالتحديد يمكن أن نفهم مسالة “يهودية الدولة”…