في مقالة له بعنوان “لماذا نقاتل؟”، كتبها في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (أي منذ نحو شهرين ونصف)، يتحدث الكاتب في صحيفة الأخبار، عامر محسن، في جزء من المقالة عن تحرير العقل العربي (تحديدا ما يخص الإعلام والمحللين)، فيقول:

على ذكر إيران، يجري اليوم بالطبع – على هامش الحرب – «جدالٌ أيديولوجي» يعكس تموضعات النخب العربية ومصالحها الطبقيّة وتوزّع فئاتها أكثر مما يعكس الرأي العام الشعبي أو الوقائع في الميدان. لهذا السّبب، من الممكن أن تستمع اليوم إلى كلامٍ كثيرٍ عن «فلسطين» و«المقاومة» من دون أن تفهم شيئاً تحليليّاً: «فلسطين» و«مقاومة» موجودتان في رأس من يتكلّم ومفصّلتان على مقاسه. هذا بمعنى أنّك لا تفهم، مثلاً، وجود نظامٍ عربيّ، مرتبط بالحرب العالميّة على غزّة. هناك، في الخطاب المائع، «أنظمة عربية وإسلامية» متخاذلة، تلفظ دائماً بالجمع، كأن ليس لها أسماء وهوية وأسبابٌ خلف سياساتها. لاحظ حسن الخلف مرّةً أنّك تجد أن نقد هذه النّخب لإيران يكون دائماً نقداً «جذرياً»، تناقضٌ كامل وعداء، فيما نقدها لـ«النظام العربي»، السعودية وغيرها، يكون أشبه بـ«العتاب».

حتى حين تطبّع الرياض وتستقبل الإسرائيليين، وتسجن قادة المقاومة على أرضها، وتحاول فرض «اتفاقات إبراهيم» على الفلسطينيين، يكون نقدهم من باب نقد المحبّ الذي يؤلمه أنّ الأمير لا يستمع إليه، وهو كلّه أملٌ في أن «يعود إلى رشده» وإلى «الثوابت العربية». لاحظوا سيل المديح الذي ناله بيانٌ من الرياض، مجرّد بيان؛ كأنّ المشكلة مع هذه الأنظمة هي في لغة البيانات، وليست مسألة بنيوية تعود إلى نشأتها ومصالحها وتحالفاتها ودورها في النظام الدولي وفي المنطقة (وأنتم تعرفون كم من هؤلاء الحكّام يحلمون حالياً بأن تقوم إسرائيل، فعلاً، بالقضاء على حماس).

بل الطرافة في التناقض تصل إلى أن تجد من يسمّي حركات المقاومة في المنطقة، بكلّ تراثها وماضيها وجماهيرها، «أذرعاً إيرانيّة»، فيسحب عنها شرعيتها ويستخدم معها لغة أعدائها، ولكنه في الوقت نفسه يرسم لها الخطط ويزايد عليها ويحدّد دورها في المعركة. من أكثر إمارات السذاجة والغباء، في أيّ سياق، هو أن تقبل بجعل عدوّك أو من لا ثقة فيه قاضياً عليك، يقيّم أفعالك ويحاكمها. الطريف أكثر هو أنّك حين تستطلع من هم ليسوا «أدوات إيران»، بحسب هذه التقسيمة، تكتشف أنهم – حرفياً وكلّهم – أدوات أميركا.

الثقافة والإعلام وجه أساسيّ من أوجه الحرب، والثقافة السائدة هي – في المعركة – عدوّنا أيضاً. رموزٌ مثل «الجزيرة» و«العربية»، والهيمنة المطلقة للإعلام الخليجي وثقافته، ليست أموراً منزلة أو «طبيعية» يمكن أن نقبلها كما هي، بل هي بنت تاريخٍ سياسيّ من الهزائم والأحداث. وتاريخها هذا، بمعنى ما، هو أيضاً تاريخنا الجماعي. لا أحبّ الدراسات التي «تنقد الإعلام» عبر تحليل خطابه ولغته، كم مرّة استخدموا هذا التعبير وأي كلمةٍ اختاروا لوصف هذا الحدث، إلخ. التحليل الحقيقي للإعلام هو تحليل رأس المال الذي أنشأه، والدور الذي يلعبه في منظومة الثقافة والسيطرة، ومن غير هذه الخلفيّة ستكون مجرّد مستهلكٍ لمادته، لا ناقداً لها.

كنت أتذكّر مع أصدقاء، ونحن من جيلٍ شهد الظهور العاصف والمدهش للقنوات الفضائية الخليجية في أواخر التسعينيات: «أم بي سي» و«أوربت» و«أي آر تي» وغيرها. لم يكن هناك شيءٌ محلّيُّ يمكن أن ينافسها، سواء أفي التسلية أم في السياسة أم الرياضة والأفلام. كان يقابلك برنامج منوّعات لعمرو أديب، مثلاً، لم يعرف الجمهور العربي مثيلاً له مسبقاً (ضيوفُ مشاهير في قالب مسلٍّ، مغنون وممثلون وراقصات: هاني شاكر يليه محمد هنيدي تليه دينا؛ مستوى مختلف في الإخراج والصورة والإنتاج، وقد ظهر معي أنّ أكثر التقنيين والمخرجين في تلك البرامج المبكرة كانوا أجانب).

ثمّ خلقوا لك «الجزيرة»، والتغطية السياسية، في البداية، حرصت طبعاً على عدم «استفزاز» مشاعرك، حول فلسطين والاحتلال والعراق، بل على استيعابها واللعب عليها وتوجيهها فيما بعد؛ المهمّ هو أن يكون هذا الجمهور تحت جناحهم وليس مع طرفٍ آخر. وحين جاء غزو العراق، أنشؤوا “لعربية” قطباً ثانياً من غير أن يضحّوا بالأوّل، فأصبحوا يتحكمون بكل نواحي الإعلام والتسلية والسياسة والثقافة الشعبية، ويستوعبون الجميع؛ وهكذا أسهموا في تشكيل الوعي والعقول لأجيالٍ من العرب.

ما أقوله هو إنّ هذه القصّة تبدأ، حقيقة، مع حرب عام 1991 وليس مع انتشار الأطباق اللاقطة على أسطح المدن العربيّة. حرب الخليج وسقوط الاتحاد السوفياتي. كان من المستحيل تخيّل مثل هذه المنظومة الخليجية القائمة اليوم في عهدٍ سياسيٍّ مختلف. المسألة بدأت مع هزيمة العراق، الصدمة والصفعة، وتحطيم «ثوابت» العالم القديم: هذا هو مفهومك عن «القوة العربية»؟ هزمه الجيش الأميركي خلال ساعات. لديك من تعوّل عليه في موسكو؟ سقط وانهار بأكثر الأشكال إذلالاً. شعاراتك و”ثوابتك” وعروبتك؟ أثبتت فشلها وأصبحت مضغة. كان من الواجب أن يتمّ تحطيم «الموجود»، ونزع شرعيته بالكامل، قبل أن يخرج جديدهم. وهذا قد حصل عبر الحرب والهزيمة، وليس إثر جدالٍ ومناظرة.

الهزيمة والفراغ حلّا بالترافق مع مرحلة الليبرالية الاقتصادية و«التخصيص»، مرحلة ضمور الإعلام الرسمي وكلّ القطاع العام، وحين أصبح الصوت لرأس المال وحده، ورأس المال المتبقّي كان في الخليج. إن تذكرون، على الهامش، حلّت في تلك المرحلة الفاصلة، التسعينيات، مدة قحطٍ وصحراء في الإعلام العربي ومادته وخطابه، إلى درجة أن القنوات اللبنانية المحليّة، فقط لأنها كانت تبثّ أفلاماً مترجمة وبعض التسلية الرخيصة، نالت حظوة ومشاهدةً لحين.

الفكرة هي أنّك حين تتعامل مع نتاج هذه المؤسسة ومع ممثليها فإنّ عليك، أوّلاً، أن تتذكّر هذا التاريخ بأكمله، قبل أن تستمع إلى ألفاظهم وتنظيرهم في السياسة والمقاومة ومصالح الناس. أمّا «الثقافة المضادة»، فهي لن تكون في جريدةٍ أو تلفزيون منافس، فهذا مستحيل، بل هي حراكٌ اجتماعي، مادي ومعنوي، يتشارك فيه الملايين من الناس في هذه المنطقة من العالم، وأهلها اليوم هم في ساحات القتال. ما أوضح من ذلك أكثر من مثال اليمن، يدخل نفسه في ساحة معركةٍ هو – بالمعنى الموضوعي – قد يكون في غنى عنها.

ولمن يستخفّ بمشاركة اليمن أو ببعده الجغرافي، فهو لا يفهم معنى أن تتحدّى إسرائيل أو أميركا عسكرياً بهذا الشكل (وهو غالباً يكون من النوع الذي ينتظر البيان السعودي «الجيّد» ليتفاءل به). قد يدفع اليمن الثمن، بالمعنى الواقعي المباشر، حملةً جويّة تدمّر ما تبقّى لديه، قد تناله غارات واغتيالات وحصار مشدّد. ومع ذلك هم أخذوا خيارهم بكلّ سهولة وتلقائية فأصبح المشهد جليّاً: اليمنيّون يطلقون على إسرائيل الصّواريخ، والسعوديّون يصدّونها في الجوّ.