كرست معاهدة وادي عربة قانونياً صيغتين أساسيتين للعلاقة الأردنية-“الإسرائيلية”:
أولاً: السعي لتحقيق تكامل إقليمي، تبلور في خمس عشرة مادة من أصل ثلاثين تتألف منها المعاهدة، غطت كافة أوجه الحياة المدنية والاقتصادية بين الطرفين،
ثانياً: السعي لتحقيق تنسيق أمني وسياسي رفيع المستوى أصبح الأردن الرسمي عبره ملزماً بالتعاون ضد أي شكل من أشكال العداء ل”إسرائيل”، حتى لو كان ذلك على مستوى التحريض اللفظي فحسب، كما جاء مثلاً في المادة الحادية عشرة من المعاهدة.
ونذكّر أن المادة الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين من معاهدة وادي عربة نصت على أنها تسمو على كل ما عداها، ومن هنا، فقد عبرت معاهدة وادي عربة عن اصطفاف إقليمي، وعن حلف سياسي، رسخ التبعية لا للإمبريالية الأمريكية فحسب، بل للكيان الصهيوني نفسه.
وبهذا تحولت معاهدة وادي عربة إلى نهج، إلى مسار أو أنموذج، لا لمجرد اتفاقية هدنة مثلاً يتعهد فيها الطرفان بعدم الاعتداء على بعضهما. وقد جاءت مؤتمرات دافوس، بعد شهر ونصف من احتلال بغداد، لتعميم نهج وادي عربة إقليمياً، انطلاقاً من الأردن. وقد عبرت مؤتمرات دافوس، المنعقدة دوماً في ذكرى احتلال فلسطين، أي في محيط الخامس عشر من أيار، عن مشروع “الشرق أوسطية” الذي يتضمن إلحاق المنطقة بالعولمة وخط الشركات متعدية الحدود، من جهة، كما يتضمن صهينة المنطقة، من خلال دمج الكيان الصهيوني في نسيجها الاقتصادي والسياسي والثقافي.
منطق العولمة طبعاً هو الذي أدى إلى بيع القطاع العام الأردني للشركات الأجنبية بأبخس الأثمان. وهو المنطق الذي حكم المسيرة الاقتصادية-الاجتماعية الأردنية منذ وضعت البلاد تحت وصاية المؤسسات الاقتصادية الدولية في نهاية الثمانينات. وهو المنطق أدى إلى تسييد شريحة طفيلية في النظام السياسي الأردني، كما أنه المنطق الذي أدى إلى رفع الضرائب والرسوم على أوسع الشرائح الشعبية، وتخفيضها على الشركات الكبرى الأجنبية والبنوك. وهو المنطق، في الأساس، الذي كرس تبعية الأردن الاقتصادية للخارج، وأنتج الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية التي تعانيها البلاد اليوم، على ضفاف الثروات الضخمة التي أنتجها الفساد.
الخلاصة الأولى إذن هي أن نهج التبعية الاقتصادية الذي سوقته الشريحة الاجتماعية المستفيدة منه هو نفسه نهج وادي عربة، فالسياسة الداخلية والخارجية هنا وجهان لعملة واحدة. وبالتالي فإن التخلص من التبعية الاقتصادية يقتضي التخلص من سياسات الشريحة التي فرضت موقفها ورؤيتها في التعاطي مع العدو الصهيوني، فالقضية ليست قضية إصلاحات ديموقراطية أو دستورية فحسب، بل قضية تغيير جذري في النهج.
وقد قيل الكثير في “الشرق أوسطية”، لكنها باختصار: 1) مشروع جغرافي-سياسي، و2) مشروع ثقافي. فهي من الناحية الجغرافية-السياسية مشروع تفكيك الدول العربية إلى أجزاء، على خطوط طائفية وأثنية، وهي ثقافياً مشروع محو الهوية العربية-الإسلامية المشتركة لبلادنا لتحويلها إلى جغرافيا بلا تاريخ.
وقد جاء مشروع تحويل الأردن إلى ثلاثة أقاليم شمالي ووسطي وجنوبي، هي اليرموك ورغدان ومؤتة، ضمن هذا السياق، وبالتوازي مع مشروع تحويل العراق والسودان إلى أقاليم. فالسياق هو مشروع تفكيك الدولة، في العالم الثالث لمصلحة العولمة، وفي الإقليم لمصلحة خلق مجال حيوي للكيان الصهيوني، وفي الأردن من أجل تحويله مع السلطة الفلسطينية إلى موطئ قدم للوثوب نحو الإقليم، وهي المعادلة التي لا يمكن فهم مشروع انضمام الأردن لمجلس التعاون الخليجي خارجها، خاصة بعد إعفاء 2500 سلعة “إسرائيلية” من الرسوم الجمركية في الأردن “بموجب البروتوكول الملحق باتفاقية التعاون التجاري والاقتصادي بين الأردن وإسرائيل الذي دخل مرحلته السادسة بتاريخ 1/1/2010″، حسب بلاغ دائرة الجمارك الأردنية في 3/1/2010، المنبثق من معاهدة وادي عربة.
ويتجاهل كثيرون من دعاة الإصلاح الدستوري والديموقراطي في الأردن (وغيره) البند الثامن من معاهدة وادي عربة الذي ينص حرفياً على توطين اللاجئين. فحتى لو افترضنا جدلاً أن التغيير في الأردن لا علاقة له على الإطلاق بالتناقض الرئيسي مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، ولا علاقة له بأي أبعاد إقليمية، ولو افترضنا أن برنامج التغيير في الأردن يقتصر على المطالبة بإصلاحات محلية، على مقاس الثورات الملونة، تعيد إنتاج التبعية ديموقراطياً ودستورياً، من خلال تغيير قانون الانتخاب (الصوت الواحد) وتحويل بعض صلاحيات الملك لرئيس وزراء يمثل الكتلة النيابية الأكبر في مجلس النواب، كما يطالب البعض، فإن تجاهل مشكلة اللاجئين، وبالتالي تجاهل التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني، يحول المشروع الإصلاحي الديموقراطي-الدستوري المحض في الأردن فوراً إلى قناة لتصدير أزمة الكيان الصهيوني للأردن، على حساب الأردن وعلى حساب القضية الفلسطينية نفسها، لأن “الديموقراطية” هنا ستصبح تنافساً أردنياً-فلسطينياً على المواقع (حتى لو أصبح الأردن جزءاً من مجلس التعاون الخليجي، ولنا في المشكلة السنية-الشيعية في الكويت مثالاً). والأسوأ أن مثل هذا التوجه يحول مشروع الإصلاح الديموقراطي-الدستوري المفتقد للبعد الوطني والقومي إلى مدخل للفتنة وللحرب الأهلية والتدخل الأجنبي هو المعادل الدموي أردنياً للصراع الطائفي والأثني في محيطنا العربي.
الخلاصة الثانية إذن هي أن وادي عربة هي مشروع للفتنة الأهلية في الأردن. أما البديل المنطقي والبرغماتي لحماية السلم الأهلي في الأردن فهو إعادة توجيه البوصلة باتجاه العدو الصهيوني لحماية الأردن وتحقيق العودة، كأساس لأي مشروع تغيير حقيقي لا يعيد إنتاج التبعية. وبدون مزايدة نقول أن دعاة إسقاط وادي عربة هم دعاة الوحدة الوطنية الفعليون في الأردن، لأنهم وحدهم من يضعون أساساً سليماً للعلاقة الأردنية-الفلسطينية في مواجهة الخطر الصهيوني.
المسألة الأخرى هي أن دعاة الإصلاح الدستوري والديموقراطي في الأردن، ممن يتجاهلون التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني، أو ممن يعطونه أهمية ثانوية، ينسون التاريخ المعاصر للنظام السياسي في الأردن. فلو انطلقنا من اعتبارات ديموقراطية صرف، كأننا نعيش في السويد مثلاً، أو في سويسرا، لما تمكنا من نسيان حقيقة أن قانون الصوت الواحد على سبيل المثال لا الحصر، الذي ينتج مجلس نواب خدماتي، لا مجلس نواب وطن، تم سنه خصيصاً لتمرير معاهدة وادي عربة، مما أدى لإنتاج مجالس نواب هزيلة وسخيفة بعد مجلس نواب عام 89. وبينما عاش الأردن تطوراً ديموقراطياً بين عامي 1989 و1993، على خلفية انتفاضة نيسان، فإن التدهور الديموقراطي، وقوننة الأحكام العرفية، كانا شرطاً لتمرير استحقاقات وادي عربة ولتكريس نهج التبعية.
وقد جاء تغول الجهاز التنفيذي، والأجهزة الأمنية تحديداً، لفرض نهج وادي عربة، كما جاء تمرير القوانين المؤقتة بالمئات في ظل الحكومات المتعاقبة خارج أي رقابة تشريعية ضمن نفس السياق، وكذلك قانون الاجتماعات العامة لمنع الاحتجاج، وقانون الأحزاب لإجهاض القوى المنظمة، وقانون المطبوعات المعدل لعام 98 الذي يحاسب الصحفي على المساس بالشأن الأمني أو الاقتصادي، وقانون مراقبة البريد والهاتف الذي يتيحها بقرار إداري (لا بقرار قضائي فحسب كما نص الدستور)، وقانون محكمة أمن الدولة الذي يوسع صلاحياتها بما يشمل الكثير من صلاحيات القضاء المدني، وغيرها من القوانين والممارسات التي كرست نفس النهج. كما أن تزوير الانتخابات النيابية على نطاق واسع أصبح جزءاً لا يتجزأ من الديكور “الديموقراطي” الأردني في ظل وادي عربة.
الخلاصة الثالثة إذن هي أن المشروع الديموقراطي لا يمكن أن يجد مداه الحيوي في ظل شروط التبعية للإمبريالية والصهيونية، كما أن الاستحقاقات القانونية للمعاهدة، وللعلاقة مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، ستفرغ أي مشروع ديموقراطي من مضمونه، وستحول الديموقراطية إلى ديكور انتخابي لاستعباد الوطن ما دام مكبلاً بقيود المساعدات السياسية والقانونية وبشروطها. فلا حرية ولا ديموقراطية في البلاد المستعبدة للخارج، والتحول الديموقراطي في الأردن يقتضي التخلص من ربقة المعاهدة. ومن الواضح طبعاً أن مشاريع التحول “الديموقراطي” التي تدفع الولايات المتحدة باتجاهها تأتي ضمن هذا السياق لتكريس التبعية على قاعدة “احترام” المعاهدات الدولية وما شابه.
أخيراً، ثمة بعد عربي وإقليمي لا يمكن الحديث عن الأردن، أو غيره من الأقطار العربية، خارجه. حتى التساهل الرسمي النسبي – الموشى بالكثير من القمع، كما رأيناه مثلاً في مسيرة 15 أيار في الغور – في التعامل مع الحراك الشعبي في الأردن، جاء على خلفية الحراك الشعبي العربي، وفي تونس ومصر تحديداً. ولم يكن مثل ذلك التساهل وارداً قبل سقوط بن علي ومبارك. ولا يمكن تخيل هبة ديموقراطية أردنية، أو قومية أو يسارية أو إسلامية، في قطر عربي واحد. ونكرر: لا مشروع تغيير حقيقي في قطر عربي بمفرده. فإما أن ينطلق مشروع التغيير نحو آفاقه العربية الواسعة، وإما أن يُحاصر ويتكلس وينتهي. والخلاصة النهائية هي أن أي مشروع تغيير حقيقي في بلادنا لا بد له أن يكون مشروعاً: 1) عربياً، 2) مناهضاً للإمبريالية والصهيونية، وإلا فإنه مشروعٌ جزئيٌ مبتسر لن تكتب له الحياة في أحسن الأحوال، إذا لم يكن مخترقاً.