د. إبراهيم علوش

يحتاج مفهوم التطبيع الثقافي إلى وقفة متأنية بحد ذاته.  فالتطبيع، إن كان يعني إقامة علاقات طبيعية بين دولتين متعاديتين أو غير متعاديتين، فإنه لا يفترض أبداً تدخل إحداهما في وسائل إعلام الدولة الأخرى وخطب الجمعة والمناهج الدراسية والإنتاج الفني والأدبي، كما تحاول دولة العدو الصهيوني أن تفرض في علاقتها مع الدول العربية التي تطبع علاقاتها معها، وكما تنص المعاهدات المعقودة مع العدو الصهيوني.

كما أن ثمة قوى كبيرة في المجتمع الصهيوني لا تعترف أصلاً بحق الفلسطينيين بالتواجد على أرض فلسطين، أو لا تعترف لهم بحقوق أصيلة على أرضهم، وتتعامل معهم كأجانب، حتى أن مفهوم “الدولة اليهودية”، أي الدولة الخالصة لليهود، بات مفهوماً مسيطراً في الخطاب السياسي الصهيوني، فكيف يُطالب العرب بتغيير منظومتهم الثقافية – القيمية والمفهومية – لتقبل الآخر الذي لا يتقبلهم ابتداءً، والذي يقوم وجوده على نفيهم جسدياً وإلغائهم ثقافياً؟!

ولعل جذر المشكلة يكمن هنا في مفهوم ثقافي يهودي متأصل في التلمود، وبات إرثاً ثقافياً لغير المتدينين من اليهود، يعتبر “الإغيار”، أو غير اليهود، بهائم خلقها الله عز وجل على هيئة البشر لخدمة اليهود، ويعتبر اليهود “شعب الله المختار”، ويبيح لليهود التعامل معهم بمقاييس “أخلاقية” مختلفة تماماً عن تلك التي يجدر التزامها بين اليهود في تعاملاتهم مع بعضهم البعض (كما وثق الكاتب إسرائيل شاحاك في كتابه “التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية، وطأة ثلاثة آلاف عام”، وغيره عدد كبير من الكتاب).  فكيف يُطالب العرب مثلاً بحذف آيات قرآنية من مناهجهم التعليمية يزعم الصهاينة من يهود وغير يهود أنها تحرض عليهم، ولا يفرضون الأمر عينه على من يقتطفون تلك الفقرات العنصرية الدموية من كتبهم وتفسيراتها؟!

المشكلة الأخرى هي أن “إسرائيل” لم تحسم هويتها الثقافية المتميزة (إذ جاز الحديث عن هوية ثقافية متميزة لدولة ومجتمع احتلال استيطاني يحتوي خليطاً عجيباً من الأعراق والثقافات).  فهل “إسرائيل” دولة ذات ثقافة شرقية أم غربية؟  ذلك هو السؤال المهم.  فإذا كانت تصر على اعتبار نفسها دولة غربية، كيف يمكن أن تنشأ علاقات ثقافية طبيعية بين المحيط العربي والإسلامي وتلك القلعة الغربية المسماة “إسرائيل”؟!  وما دمنا لا نتحدث هنا عن تبادل تجاري أو علاقات سياسية أو ديبلوماسية فحسب، كيف سيعيش بيننا بشكل “طبيعي” ذلك التجمع اليهودي المستورد على أرض فلسطين المحتلة وهو يصر على اعتبار نفسه امتداداً لأوروبا في المشرق حسب المقولة الصهيونية الشهيرة: “إسرائيل دولة غربية نيّرة تعيش في محيط من الدول العربية الشرقية الديكتاتورية والمتخلفة”؟!

المشكلة الثقافية الأخرى، وهي مشكلة لا تمس العرب وحدهم، تتعلق بالحساسية الثقافية المفتعلة، بل قل الدينية، المتعلقة برواية “المحرقة”، وفرض تقديسها على كل شعوب الأرض، ومنع مناقشتها قطعياً، وهو منع تتهيب تخطيه حتى بعض وسائل إعلام المقاومة العربية أحياناً للأسف، في الوقت الذي يصبح فيه “تجاوز الحساسيات الدينية” شرطاً من شروط التطبيع الثقافي فعلياً، إلى أن يصبح الاعتراف الشعبي والنخبوي العربي غير المشروط بأساطير “المحرقة” خرم الإبرة الذي يفترض أن يمر عبره أي “تطبيع ثقافي” حقيقي…

تلك إذن معادلة للتطبيع الثقافي لا يمكن حلها أبداً، حتى لو افترضنا جدلاً تقبل العرب الكامل لمبدأ العلاقات الثقافية الطبيعية، إلا بقيام علاقات غير متكافئة وغير طبيعية.  وانعدام التكافؤ يصير هكذا في صلب التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني، فإننا هنا لا نتحدث عن تطبيع بمعناه الحرفي، بل عن علاقة هيمنة ثقافية تتمم علاقة الهيمنة السياسية والتجارية والأمنية وغيرها، أي أن التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني لا يمكن أن يكون أمراً طبيعياً.

فإذا كان هذا معنى التطبيع الثقافي كما يفهمه العدو الصهيوني، فإن مشروع الهيمنة الثقافية الصهيونية على المحيط، أي مشروع فرض الرواية والرؤية والراية الصهيونية على عقول العرب وقلوبهم بات يقتضي: 1) تذليل العقبات الثقافية أما تقبل الهيمنة الصهيونية والتواجد اليهودي في فلسطين، و2) إعادة تشكيل المنطقة ثقافياً كوعاء قادر على تعزيز عناصر قوة المشروع الصهيوني.

أما تحقيق هذين الهدفين الإستراتيجيين فيقتضي: 1) شطب هوية المنطقة العربية والإسلامية (التي تشمل حتى غير العرب وغير المسلمين الذين يعيشون فيها)، و2) نسف ثقافة أبناء المنطقة وتفكيكها، وهو المشروع الذي تشارك فيه الإمبريالية العالمية أيضاً من خلال وسائل الإعلام المعربة ومنظمات التمويل الأجنبي.

التطبيع الثقافي والإعلامي حجر زاوية في الإستراتيجية الصهيونية، وبند رئيسي دائم على رأس أجندة المفاوضين الصهاينة والوسطاء الغربيين.  لكن ذلك لا يجوز أن يفهم منه أنهم يقصدون علاقات ثقافية طبيعية أو متكافئة كما قد يوحي المصطلح حتى لو تجاوزنا كل تحفظاتنا المبدئية عليه، إذ أن لدى الصهاينة منطلقاتهم الثقافية وتكوينهم الذي يمنعهم من التطبيع معنا حتى وهم يطالبوننا بالتطبيع معهم.  المقصود بالتطبيع الثقافي إذن هو فتح أبواب العقول والقلوب التي تحاصر القلعة الصهيونية لكي تتمكن “إسرائيل” من اختراق محيطها ثقافياً ووجدانياً وتغيير مفاهيمه وقيمه.  نحن نتحدث عن مشروع إلحاق ليس فقط فيما يتعلق بحالة العداء المتأصلة تجاه العدو الصهيوني، بل أن إزالة حالة العداء نفسها تتطلب هدم وإعادة هدم كل شيء عربي حتى لا تبقى ثمة عروبة ولا تبقى أصالة أو نهضة… فقط محيط من الخراب الثقافي لا يمكن أن يشكل يوماً خطراً على “إسرائيل”.  فنحن نتحدث فعلياً هنا عن سرطان ثقافي لا يمكن أن يتعايش مع بيئته إلا ليفتك بها.