ترجمة “الأدب العبري الحديث” إلى العربية مشروع لإدخال “إسرائيل” إلى المشهد الثقافي العربي
2010-07-16
د.إبراهيم علوش
تبرز في مصر بين الفينة والأخرى، منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيوني بالأخص، إشكالية الترجمة من وإلى العبرية. وهي إشكالية تمس المشهد الثقافي العربي برمته لا المصري فحسب. وقد انجر مثقفون وكتاب وأدباء عرب من أقطار عربية متعددة إلى السجال الدائر حول هذه القضية البرمائية، التي تغطس تحت سطح الحدث الثقافي مطولاً فقط لتعود وتطفو فوقه من جديد.
ولا يكاد يمر شهر أو شهران حتى تثار قضية الترجمة من وإلى العبرية في العناوين الثقافية الرئيسية أو الثانوية بصورة أو بأخرى، ومن ذلك مثلاً لا حصراً: إصدار ترجمة عبرية لديوان “جغرافيا بديلة” للشاعرة المصرية إيمان مرسال بموافقتها، كما جاء في العناوين الثقافية لشهر تشرين الأول 2009.. وبينما كان فاروق حسني وزير الثقافة المصري يقوم بحملة انتخابية في صيف عام 2009 للفوز برئاسة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، أعلنت وزارة الثقافة المصرية أنها على وشك التعاقد مع دار نشر أوروبية لترجمة مؤلفات الكاتبين “الإسرائيليين” آموس أوز وديفيد غروسمان إلى العربية..
وقد ترافق ذلك مع إعلان حسني عن استعداده لزيارة الكيان الصهيوني في حال فوزه في المنصب (الذي ذهب في 22/9/2009 للبلغارية إيرينا بوكوفا).. وفي عام 2007 ترجمت دار نشر ابن لقمان رواية “ياسمين” لكاتب “إسرائيلي”.. وتتولى نفس الدار ترجمة سلسلة “كيف يرانا الإسرائيليون” وسلسلة “المجتمع الإسرائيلي كأنك تراه”.. وقد صدرت عنها أيضاً مذكرات السفير “الإسرائيلي” الأسبق في القاهرة موشيه ساسون وكتاب “اليسار المصري والصراع العربي الإسرائيلي” ليوسي أمتاي…
وفي كل مرة كانت تعود فيها قضية الترجمة من وإلى العبرية إلى السطح كان يثور السجال مجدداً حول ما إذا كانت تطبيعاً أم معرفة ضرورية “للآخر”! وقد ذهب البعض إلى اتهام العرب بالجهل لأنهم يرفضون معرفة “إسرائيل”، في الوقت الذي يقوم فيه “الإسرائيليون” بترجمة الأدب العربي المعاصر منهجياً من عقود، من نجيب محفوظ إلى توفيق الحكيم إلى محمود درويش إلى صنع الله إبراهيم إلى عبد الرحمن منيف وغيرهم كثر… ناهيك عن الترجمات السياسية والفكرية.
ولكن لماذا يتجاهل “محبو المعرفة” ممن يروجون لترجمة الأدب “الإسرائيلي” أن مثل تلك الترجمات هي بالأساس مشروع مؤسسي منظم للدولة الصهيونية نفسها؟ وقد أسست لهذا الغرض عام 1962 “معهد ترجمة الأدب العبري” الذي يقول في موقعه على الإنترنت أنه يقدم “الدعم المالي لدور النشر التي تتولى ترجمة الأعمال الأدبية الإسرائيلية الحديثة بصورة مستقلة”، و”للمجلات التي تخصص أعداداً خاصة للأدب العبري الحديث، وللناشرين الذين ينشرون مقتطفات منه”… بالاتفاق مع المعهد طبعاً. وقد تولى ذلك المعهد على مر السنين نشر وتعميم مئات الأعمال الأدبية “الإسرائيلية” حول العالم، وصدرت عنه بالتالي آلاف العناوين بلغاتٍ عدة. كما أنه يرتب زيارات لكتاب وصحفيين وناشرين أجانب للتعرف على نظرائهم “الإسرائيليين”… وموقع “معهد ترجمة الأدب العبري” على الإنترنت موجود لمن يود التأكد مما ورد هنا، وسيجده على الصفحة الأولى لذلك الموقع.
إذن، ثمة أموال تضخ، وجهود تبذل، واتصالات تجري، وخطط توضع، من أجل إقناع العالم بأن هنالك دولة طبيعية أسمها “إسرائيل” تنتج أدباً وفكراً وحضارة، وهو مشروع تطبيع ثقافي على مستوى عالمي تحركه عقدة نقص متجذرة في حداثة سن تلك الدولة المفتعلة التي تعرف في قرارة نفسها أنها كذبة بلا تاريخ ولا حضارة… فهي التي تتلوى لكي نعترف بها ثقافياً، وليس العكس. أما إقناع المواطن العربي بأن ثمة دولة طبيعية اسمها “إسرائيل” تنتج ثقافةً وأدباً لا بد من التواصل معهما وتقديرهما فلا يمكن إلا أن يكون مشروعاً تطبيعياً من الدرجة الأولى، أو مشروعاً لإدخال الكاتب “الإسرائيلي” في النسيج الثقافي… والروائي والشعري، العربي.
وابتداءً لا بد أن يتخلى الصهيوني عن تعالي ثقافته العنصرية، ولا بد أن تجري الترجمة على خطين، من العربية إلى العبرية وبالعكس، لتحقيق التطبيع الثقافي الذي لا يتحقق إذا جاء البث باتجاه واحد فقط… على الأقل في المرحلة الأولى، حتى يتم تكريس المرجعية الثقافية “الإسرائيلية” في “الشرق الأوسط الجديد” المفكك إلى معازل والفاقد لهويته العربية. فنحن لا نتحدث هنا إذن عن ترجمة بضع كتب أو روايات أو دواوين شعرية كيفما اتفق، بل نتحدث عن اختراق وعن معالم مشروع ثقافي لدولة توسعية محتلة، فهل يصح أن نتعامل مع مشروع “إسرائيل” الثقافي بمعزل عن مشروعها السياسي؟!
ومن المنطقي أن تكون الخطوة الأولى في ذلك المشروع الثقافي هي تكريس “إسرائيل” كدولة طبيعية، ومد قنوات “التواصل الأدبي” المفتوح معها، وفرض إنتاجها الأدبي كإنتاج “حضاري” لا يختلف عن إنتاج أية دولة طبيعية أخرى. ونحن أبناء هذه المنطقة الأصليين لم نأتِ إليها من بولونيا وروسيا برعاية الاستعمار الغربي، ولم يأتِ إنتاجنا الأدبي على حين غرة بلغة هجينة ليست حتى عبرية أصلية… نحن ورثة اللغة العربية والحضارة العربية-الإسلامية العريقة علينا أن نحمي ثقافتنا من الاختراق، وأن نكشف ما يسمى “الأدب العبري الحديث” كنتاج طارئ مفتعل لأنه نتاج دولة ومجتمع طارئ ومفتعل… والعقدة هنا لا تكمن في ما إذا كانت الترجمة من العبرية تجري من خلال الاتصال المباشر بدور نشر “إسرائيلية” وكتاب “إسرائيليين” أم لا، فترتيب مثل تلك الاتصالات يمكن أن يجري مع المطبعين بسهولة من خلف الستائر… بل تكمن المشكلة الأعوص في التعرف على ملامح مشروع إيصال الثقافة “الإسرائيلية” إلى الطفل العربي والطالب العربي والمرأة العربية والمواطن العربي… ويصبح من مهمات المقاومة الثقافية كيفية التصدي لمثل ذلك المشروع.
ولكن، بالمقابل، ألم يكن دخول كاتب هذه السطور مثلاً إلى موقع “معهد ترجمة الأدب العبري” وتفقد ما فيه شكلاً من أشكال التطبيع الثقافي أيضاً؟
قبل أن نتحدث عن الترجمة من أجل “معرفة الآخر” علينا أن نحدد موقفنا من هذا “الآخر”: هل هو عدو، أم جار نود التعرف إليه، أم ماذا؟ فإذا كان عدواً، فمن الواجب أن نعرفه طبعاً وأن نعرف لغته وفكره ومجتمعه وكل شيء عنه، ولكن شتان ما بين هذا وفتح الأبواب بالكامل لتغلغل ذلك العدو في ثنايا مجتمعنا وفكرنا الجمعي ونخبنا الثقافية من خلال الكتاب والفيلم والمحاضرة والمشروع الثقافي “الإسرائيلي” الرسمي. إن عدواً وجودياً ونقيضاً تاريخياً مثل العدو الصهيوني تصبح معرفته جزءاً ضرورياً من مشروع المقاومة العربية، وهو ما يتطلب مؤسسات ثقافية وإعلامية مقاوِِمة، ونخبة ثقافية وإعلامية مقاومة، ومثقف مرتبط بأمته وقضاياها، لا مثقف مستلب معادي لأمته يشعر بالدونية تجاه العدو ويتعطش لنيل الاعتراف الثقافي منه.
أما الذين يتحدثون عن ضرورة معرفة الآخر، ضمن حسابات سمسرة ثقافية من الواضح أنها مشبوهة سياسياً ومالياً، فإنهم لا يميزون ما بين ضرورة متابعة إعلام العدو وتياراته السياسية والفكرية المختلفة وما بين الترويج ل”حقه” بالتواصل الثقافي غير المقيد مع المواطن العربي. وهم لا يتحدثون عن ترجمة مفلترة مدروسة منهجية ومؤسسية تكشف لنا العدو وتمكننا من الاستفادة من إنجازاته العلمية والتكنولوجية والعسكرية، وتعرفنا على خططه ومشاريعه السياسية والأمنية مثلاً، لا! إنهم لا يطرحون مشروعاً للمقاومة الثقافية بل يطالبوننا بالاعتراف بحق العدو باختراق الوجدان الجمعي العربي من خلال الشعر والرواية والنص المسرحي وما شابه. إنهم يتحدثون عن ترجمة “الأدب العبري الحديث” أساساً في سياق مشروع “معهد ترجمة الأدب العبري” سابق الذكر..
كما أنهم ينوحون على “جهل” العرب لرفضهم التواصل الفكري والحضاري مع العالم، حسب زعمهم، لكننا لا نراهم يطالبون بترجمة الكنوز الأدبية والفكرية العظيمة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب التي تقزم أي إنتاج أدبي مزعوم لمجتمع مصطنع يقوم على القتل والإرهاب والاحتلال. وهم لا ينوحون بالمقابل على غياب الرؤى الثقافية الإستراتيجية لدينا، وعلى عدم وجود معاهد متخصصة في الوطن العربي (مثل معهد ترجمة الأدب العبري) لترجمة الأدب العربي الحديث الذي ما برح يعتمد في الأعم الأغلب على القدرات والإمكانات الفردية للكتاب العرب.
وفي النهاية، وبعيداً عن حملة التسويق “الإسرائيلية” الرسمية، لا يوجد إنتاج أدبي “إسرائيلي” متميز إلى درجة تجعل عدم تمثله خسارة لا تعوض… فقضية الترجمة من العبرية هي في المحصلة قضية سياسية قبل أن تكون ثقافية، إنها قضية الاعتراف ب”إسرائيل”، ولولا ذلك لرأينا من يطرحونها يطلبون العلم في الصين قبل أن يطلبوا الأدب ممن يحتلون فلسطين!